يخلد الشعـب المغربـي ومعه أسرة الحركة الوطنية والمقاومـة وجيش التحرير ، غدا الثلاثاء ، الذكرى 68 للانتفاضة الشعبية التي شهدتهـامدينة القنيطرة أيام 7 و8 و9 غشت 1954، والتي تعتبر انعطافة مفصلية وحدثا تاريخيا بارزا في ملحمة كفاح العرش والشعب من أجلالحرية والاستقلال وتحقيق الوحدة الوطنية والترابية.
وذكر بلاغ للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير أن نشأة الحركة الوطنية بإقليم القنيطرة وبمناطق الغرب الشراردةبني احسن، تعود إلى الفترة التي اندلعت فيها الحركات الاحتجاجية ضد ما سمي بالظهير البربري في 16ماي 1930، واجتاحت أغلبالمدن المغربية من بينها مدينة القنيطرة.
وبحسب المصدر ذاته فقد فطن قادة الحركة الوطنية في كل من فاس والرباط وسلا ومنذ الوهلة الأولى لمخطط نظام الحماية الفرنسية فيجعل مدينة القنيطرة قاعدة لها، لذا هبوا مبكرا لمناهضته حيث وضعوا استراتيجية لاستقطاب جماهير المدينة إلى صفوفهم بشتى الطرق منخلال التعليم الذي لعب دورا أساسيا في تأطير الشباب ونشر مبادئ الحركة الوطنية وتكوين جيل من المثقفين لمواجهة المستعمر، وتعزيزحركة المدارس الحرة و فتحها في مختلف أنحاء المغرب، وذلك استعدادا لمواجهة سياسة الحماية.
كما تعبأوا للقيام بمهمة الوعظ والإرشاد من خلال إلقاء دروس التوجيه وتلقين القيم الوطنية التي تحث على التصدي للمستعمر، علاوة علىتعبئة الجمعيات الرياضية والتربوية والثقافية والشبابية.
وأبرز أنه من الصفحات الخالدة التي سجلها التاريخ للمنطقة مساهمتها الوازنة في حدث تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير1944. فقد كان لمناطق الغرب الشراردة بني احسن قصب السبق في المبادرة لتنظيم هذه الوقفة التاريخية التي سبقتها أعمال نضاليةمهدت لها، وتم إعدادها واختيار توقيت انطلاقها، وتحديد مضامينها بتشاور وتوافق مع أب الوطنية وبطل التحرير والاستقلال جلالة المغفورله محمد الخامس قدس الله روحه.
وأضاف أنه من الشخصيات الوطنية المنتمية لهذه الحاضرة المناضلة والموقعة على وثيقة المطالبة بالاستقلال التاريخية، نذكر محمد الديوريوالجيلالي بناني وبوشتى الجامعي ومحمد بناني وحسن الورزازي وأحمد بن عثمان بندلة.
وقبل نفي جلالة المغفور له محمد الخامس، كانت العلاقة وطيدة بينه وبين سكان مدينة القنيطرة، وتأكدت في أبهى صورها بعد نفيه في 20 غشت 1953. فالدارس لتاريخ المغرب الحديث يلاحظ الحضور المتميز لمدينة القنيطرة في جل المحطات النضالية من أجل نيل الحريةوالاستقلال حتى يوم 16 نونبر 1955، تاريخ عودة الملك الشرعي إلى عرشه وإعلانه عن انتهاء عهد الحجر والحماية وإشراقة شمس الحريةوالاستقلال.
لقد استرخص أبناء القنيطرة حياتهم وسقوا بدمائهم المعارك النضالية التي خاضوها في مواجهة المستعمر بالمدينة وضواحيها، ولم يثنهم عنذلك العدد الكبير من الشهداء والجرحى والمنفيين والمعتقلين؛ حتى التلاميذ والأطفال تركوا مدارسهم وكتاتيبهم القرآنية للمساهمة القوية فيانتفاضة 7 و8 و9 غشت 1954. وظل سكان القنيطرة على الدوام يثمنون، وبالملموس، مواقف القصر الملكي بالمدينة وعطف جلالته علىرجالات الحركة الوطنية بها وعلى نقابييها وأبنائها في الحركة الكشفية وفي النوادي الرياضية وعلى صناعها التقليديين والحرفيين وعلىتجارها الصغار والمتوسطين وفلاحيها ونسائها الفاعلات في صفوف الحركة النسائية تحت إشراف الأميرة لالة عائشة.
ويسجل التاريخ أنه في 20 غشت 1953، انطلقت حافلات “كليمان” من مدينة القنيطرة، وكانت وجهتها الرباط لنقل الأسرة الملكية منالقصر الملكي إلى المطار، وشركة “كليمان” للنقل كانت معروفة آنذاك، وكان يعمل بها مغاربة وفرنسيون وإسبان كسائقين. وقد تم إخبارسائقين مغربيين اثنين من أبناء القنيطرة و تكليفهم بمهمة قيادة الحافلات والتوجه إلى القصر الملكي بالرباط صباح يوم 20 غشت 1953 باكرا. إلا أنه في آخر لحظة، أبعدتهما إدارة الشركة عن المهمة، اعتبارا لعلاقتهما المعروفة بالوطنيين والخلايا الحزبية بالمدينة. وهكذا، تمتعويضهما بسائقين غير مغاربة للقيام بالمهمة.
وأشار البلاغ إلى عملية حرق معمل الفلين، وهي أول عملية فدائية بعد مرور أقل من 28 ساعة على نفي جلالة المغفور له محمد الخامسطيب الله ثراه والعائلة الملكية الشريفة عن أرض الوطن، بالإضافة إلى نسف القطار الرابط بين الدار البيضاء ووهران بالجزائر، وهي العمليةالتي أربكت وأذهلت وهزت أركان القوات الاستعمارية الفرنسية. وبذلك جرى الإعلان عن الشروع في العمل المسلح؛ فتأسست الخلاياالفدائية وتم اقتناء الأسلحة (مسدسات، رصاص، وبارود لصنع القنابل المحلية) بدعم وتمويل من الوطنيين وأعضاء الخلايا آنذاك ومن بعضالمحسنين.
ولقد قال المحامي الفرنسي “جان شارل لوكران” في كتابه: “أيتها العدالة، يا موطن الإنسان”: “إن الملك محمد الخامس لم يرجع إلى عرشهمن قصور أو مكاتب أو قاعات استقبال، لقد رجع الملك محمد الخامس إلى عرشه من محمل مصرع الشهداء”.
وفعلا، كان الارتباط القوي بالقصر الملكي وبشخص جلالة المغفور له محمد الخامس من العوامل الأساسية، إن لم يكن العامل الرئيسيالأول الذي ساهم في تحقيق التجاوب والتلاحم بين أهل دكالة وأهل فاس وأهل عبدة وأهل الشياظمة وأهل الغرب الشراردة بني احسن وأهلالحوز وأهل مراكش وأهل سوس وأهل طنجة وجميع أبناء الوطن. وهكذا، كانت الانطلاقة لمسلسل نضالي حضاري وقيمي طافح بأمجادوروائع الكفاح الوطني، حق للناشئة والأجيال الجديدة الاعتزاز به.
كما أشار إلى أن نظام الحماية جعل من مدينة القنيطرة واجهة لعرض أطروحاته وأكاذيبه القائلة بأنه جاء للمغرب ليس للهيمنة والسيطرةوإذلال الإنسان واستغلال سكان البلاد ونهب خيراتها، وإنما جاء لنشر الحضارة وإرساء التمدن وللقيام بالبناء والتشييد، أي لإقامة الصرحالحضاري كما كان يحلو لدهاقنة الاستعمار قوله والتبجح به. لذلك، كان نظام الحماية واعتبارا لدواعي ايديولوجية استعمارية توسعيةمحضة يروج للأطروحة القائلة إن القنيطرة لم تكن موجودة وإنما هي من صنع الحماية الفرنسية من لا شيء، ولهذا الغرض، عمل نظامالحماية على استبدال إسم القنيطرة باسم ميناء ليوطيPORTLYAUTEY سنة 1932. ولم تكن مفاجأة ومدعاة للاستغراب أن يتأسسأول حزب يميني متطرف (صليب النار) بالقنيطرة التي كانت ركحا لمعارك بين المتطرفين والليبراليين أكثر من أي مدينة أخرى من الوطن.
وبحسب البلاغ فإن كل هذه التحديات والتداعيات لم تستطع إخفاء الأهمية التاريخية الثابتة للقنيطرة الوطنية والمجاهدة والشعبية في تاريخالمغرب منذ السنوات الأولى للاستعمار بالبلاد. لقد ظل إسمها حاضرا وبامتياز في مختلف الأحداث والمواقف والقرارات التي صهرت تاريخالمغرب الحديث، مضيفا أنه في واقع الأمر، فطنت الحركة الوطنية مبكّرا للمكيدة الاستعمارية الهادفة إلى تحويل مدينة القنيطرة إلى مرتعللايديولوجية الاستعمارية وللمعمرين المتطرفين، لذلك شجعت الهجرة المكثفة إليها. وللتصدي لهذا المخطط، عملت على تحفيز المغاربة فيمختلف مدن وجهات المغرب للهجرة إلى القنيطرة. وفعلا، تمت الاستجابة لدعوة الحركة الوطنية، حيث توافد على المدينة وطنيون من كل أرجاءالبلاد، وتآلفوا فيما بينهم عبر الزاوية والمسجد والمدرسة والجمعيات والنوادي الرياضية وغيرها.
وشكلت هذه الاستراتيجية خطوة جوهرية على درب إفشال مخططات نظام الحماية ليس بمنطقة الغرب الشراردة بني احسن وعاصمتهاالقنيطرة فحسب، وإنما بالمغرب كله. وهذا ما يفسر تجذر الحركة الوطنية مبكرا بالقنيطرة.
وبذلك ظلت القنيطرة حاضرة بامتياز في تاريخ المغرب الحديث، وطنيا ونضاليا منذ 1915، وشكلت أرضية صلبة لانطلاق النضالات وتفجيرالمظاهرات الشعبية إلى أن اضطر أبناء “حلاّلة”، لاسيما شباب ديور صنياك والمدينة القديمة والدوار والبوشتيين وديور المخزن وغيرها منالأحياء الشعبية إلى المساهمة المكثفة في الكفاح المسلح والمواجهة المباشرة والعلنية مع القوات الاستعمارية رغم قوّة عتادها وجيوشهاومخبريها والمتعاملين معها.
وأضاف أنه إلى جانب الانتفاضات الشعبية والكفاح المسلح، لعب النضال الاقتصادي دورا مهما. فقد حرص الوطنيون والمقاومون المغاربةعلى تطبيق مقاطعة البضائع الفرنسية، ولم يتوانوا لحظة في إنجاح المقاطعة بجميع الوسائل وعيا منهم بأنها تشكل ضربة قاسية للمستعمرعبر شل الاقتصاد كأسلوب من الأساليب النضالية الراقية التي لها جدواها الأكيدة والمباشرة، وذلك بإقفال الدكاكين واعتبار استهلاكالدخان من المحرمات في حق الوطن، وتمكنوا بذلك من ضرب مصالح الرأسماليين الفرنسيين في الصميم. وأصبح هؤلاء يضغطون علىالإقامة العامة والحكومة الفرنسية للقضاء على المقاومة ولوضع حد للأعمال الفدائية. لكن كلما اشتد القمع والتنكيل، كلما تقوت روح المقاومةوالكفاح، وهذا ما أرهبهم بعد أن أيقنوا أن المقاومة أضحت حاضرة في كل مكان وفي كل حين. والواقع أن شل الاقتصاد الاستعماريوتحريك الجماهير في الشوارع وتعبئتها يعتبران من العوامل الأساسية والمؤثرة، مع المقاومة المسلحة التي ساهمت وبشكل كبير، في تغييرمجرى الأحداث السياسية.
وذكر بلاغ للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير أن أسرة المقاومة وجيش التحرير وهي تخلد هذه الذكرى المجيدة، التيتتزامن، هذه السنة وإحياء الشعب المغربي للذكرى الثالثة والعشرين لاعتلاء جلالة الملك محمد السادس عرش أسلافه المنعمين، لتؤكد علىواجب الوفاء والبرور بالذاكرة التاريخية الوطنية وبرموزها وأعلامها وأبطالها الغر الميامين. وهي في ذات الوقت، تحرص على إيصال الرسائلوالإشارات القوية وإشاعة رصيد القيم والمثل العليا ومكارم الأخلاق في أوساط وصفوف الشباب والناشئة والأجيال الجديدة والقادمة لتتشبعبأقباسها وتغترف من ينابيعها، ما به تتقوى فيها الروح الوطنية وحب الوطن والاعتزاز بالانتماء الوطني لمواصلة مسيرات الحاضر والمستقبلتحت القيادة المتبصرة والحكيمة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس لبناء وإعلاء صروح المغرب الجديد، مغرب الحداثة والديمقراطيةوالتنمية الشاملة والمستدامة والتضامن والتكافل الاجتماعي.
وأضاف البلاغ أن المناسبة سانحة للتأكيد مجددا على الموقف الثابت للشعب المغربي، ومعه أسرة المقاومة وجيش التحريـر، وكافة مكوناتوأطياف المجتمع، وتعبئتهم المستمرة ويقظتهم الموصولة وتجندهم الدائم وراء عاهل البلاد صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، منأجل تثبيت المكاسب الوطنية والدفاع عن وحدتنا الترابية غير القابلة للتنازل أو المساومة، متشبثين بالمبادرة المغربية القاضية بمنح حكم ذاتيموسع لأقاليمنا الجنوبية المسترجعة في ظل السيادة الوطنية.
واحتفاء بهذه الذكرى الغالية، ستنظم النيابة الاقليمية للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير بفضاء الذاكرة التاريخيةللمقاومة وجيش التحرير بمدينة القنيطرة، مهرجانا خطابيا تلقى خلاله كلمات تستحضر الدلالات الرمزية والأبعاد التاريخية لهذه الانتفاضةالمجيدة، إضافة إلى تنظيم ندوة فكرية تحت عنوان:” انتفاضة القنيطرة ضد المستعمر في 1954، ملحمة بطولية بمنطقة الغرب “، وذلك غداالثلاثاء، بمشاركة صفوة من الأساتذة الجامعيين والباحثين والدارسين والمهتمين.
هذا، وستتميز هذه الفعاليات بمراسم تكريم صفوة من قدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، ومنح لوحات تقديرية لهم، في التفاتة وفاءوبرور وعرفان وتقدير لمناقبهم الحميدة ومزاياهم الرفيعة وإسهاماتهم الغزيرة في معترك النضال الوطني والتحريري.
وأشار إلى أنه فضلا عن التكريم المعنوي، سيتم توزيع إعانات مالية ومساعدات اجتماعية وإسعافات ممنوحة لأعداد من عائلات قدماءالمقاومين واعضاء جيش التحرير وأرامل وذوي حقوق الشهداء والمتوفين منهم، دعما للفئات الاجتماعية التي توجد في حالة العسر الماديوالعوز الاجتماعي