بقلم: #د_عبدالرحيم_موھوب.
يخسر المجتمع حين يصاب شبابھ أو قطاع كبير من شبابھ بحالة الاغتراب والتي تكون نتيجة للعزلة الاجتماعية، ويعتبر الاغتراب حالة نفسية اجتماعيَّة تسيطر على الفرد وعلى الشباب بشكل خاص، بحيث تحولھ إلى شخص غريب وبعيد عن كثير من جوانب حياته، فيصبح في حالة انفصال عن نفسه وعن الواقع المحيط به. وبمعنى آخر هو حالة من الانفصال أو الغربة أو الاستيلاب مما يجعله معزولا اجتماعيا.
وھذھ العزلة الاجتماعية يشعر معها الشخص بأنه ليس في بيته أو موطنه أو مكانه أو زمانه، ولذا يبحث عن واقع آخر قد يكون افتراضيا، وقد يكون في منطقة جغرافية أخرى، أو ربما في زمن آخر. فالاغتراب قد يبدأ من الأسرة، حين ينعزل الشخص عن أفرادها لشعوره بالغربة بينهم، والاختلاف الحاد معهم أو مع بعضهم، ثم يمتد هذا الانعزال إلى المجتمع الأوسع، وقد يحدث العكس حين يشعر الشخص بظلم مجتمعي، سواء كان ھذا الظلم حقيقيا أو متخيلا فلا يجد فرصة جيدة للدراسة أو العمل، ولا يجد قضية تشغله، أو يضيق أمامھ أفق التعبير عن الرأي أو الفكر أو الحركة، فينعزل عن المجتمع ويرفضھ أو يتمرد عليه سرا أو جهرا، ويمتد ذلك فيما بعد إلى الأسرة، فينكفئ في النهاية على ذاتھ فاقدا أية رغبة في التواصل أو الاتصال بأي مما يذكره بواقعه المؤلم، وحاضره المرفوض، ومستقبله الغامض.
وللاغتراب تداعيات متباينة وخطيرة، منها العزلة، والتطرف، وتعاطي المخدرات، والسلوكيات التدميرية، والسخرية، والتمرد، والإلحاد، والرغبة في تحطيم الثوابت، والرغبة في التحلل من الأخلاق، وفقد الانتماء، وفقد الشغف والحماس، وإدمان الإنترنت، وإدمان المواقع الإباحية، وإعلان الانتماء لمجموعات جنسية يستهجنها المجتمع. وتتعدد مظاهر الاغتراب وتتباين في درجة حدتها وتأثيرها، ومن أبرز هذه المظاهر ھناك غياب الحلم في العيش الكريم الهانئ سواء في الأسرة أو في المجتمع، ثم تظهر فكرة هجرهما، بعدها ينتقل حلم الشاب خارج حدود أسرته أو وطنه، فيُفكر في الهجرة ويسعى إليها، وينفصل وجدانيا عن الوطن ومشكلاته وهمومه. وكذا ضعف الانتماء، حيث يشعر الشاب بأنه لا يجد نفسھ في هذه الأسرة أو هذا المجتمع، فيضعف انتماؤه أو يتلاشى. ثم اللاهدف، إذ تضيع بوصلة التوجه، وتفقد الأهداف قيمتها وجاذبيتها. كذلك اللامعنى، حيث تفقد الأشياء والأحداث وتفقد الحياة كلها معناها، وتصبح خالية من الروح والجوهر والبريق. وضعف الهوية أو فقدانها، إذ لم يعد يعرف الفرد على وجه اليقين من هو أو ماالذي يريده.
ومن مظاھرهه كذلك العزلة الاجتماعية، حيث ينفصل عن السياق الاجتماعي وينكفئ على ذاته لأنه لا يتناغم مع هذا السياق. وھناك اللامعيارية، وهي تحدث حين يتأكد للشخص أن الأمور تسير بشكل عشوائي، ولا تحكمها قواعد أو قوانين أو ضوابط، أو أنها تسير بقوانين القوة والسيطرة والغلبة، وليس بقوانين الأخلاق. ثم التشيُّؤ، أي شعوره بأنه فقد قيمته وكرامته وحقوقه كإنسان، والشعور بالعجز واليأس وقلة الحيلة والاتجاه نحو العدمية، واللاجدوى والتسليم السلبي بالواقع رغم رفضه وكراهيته. ومن انعكاسات ھذا الاغتراب تلوح نوبات التمرد، وقد تأخذ شكلا صريحا في صورة غضب أو سخرية أو استهزاء أو عنف لفظي أو جسدي، وقد تتحول مع الوقت إلى حالة مستتبة من العدوان السلبي، حيث يميل الشاب إلى مقاطعة كل شيء، والبعد عن كل شيء وهو ما يطلق عايھ بصمت العناد والتجاهل.
ويرى البعض أن مواقع التواصل الاجتماعي ليست مسؤولة عن ظاهرة الاغتراب، وأن كل ما فعلته هو كشف الغطاء عنها حين أعطت مساحة هائلة لهؤلاء الشباب للتعبير عن غضبهم وتمردهم وانفصالهم عن واقعهم وواقع مجتمعاتهم وغربتهم عن كل ما يجري حولهم.
وترجع حالة الاغتراب لدى الشباب إلى أبعاد سياسية، من حيث أنها نتيجة لتقلبات وأحداث سياسية شارك فيها الشباب بفاعلية كبيرة ولكن نتائجها لم تكن على مستوى تصوراتهم وطموحاتهم، فانصرفوا عن المشاركة في أي شيء غضبا وتمردا، أو أن تلك الحالة من الاغتراب هي نتيجة لأنظمة أو منظومات سياسية تستبعد الشباب من المشاركة بالرأي أو المشاركة في مواقع التأثير، وتهميش هؤلاء الشباب، أو التحكم فيهم، أو إجبارهم على القبول بخيارات لا يريدونها لصالح الكبار المتحكمين في مصائرهم، وهذا أمر مهم نراھ حين يشعر الشاب بتهميشه في الأسرة وفي المدرسة وفي العمل وفي سائر المؤسسات والمنظومات المجتمعية، ويفسر هؤلاء حماس واندماج الشباب حين شارك في احتفاليات الفوز للمنتخبات الكروية الوطنية بأعداد هائلة، ثم المشاركة في ثورات الربيع العربي بحماس كبير وأعداد مليونية، ثم انسحابه المفاجئ بعد ذلك. ولا ينكر أحد أهمية البعد السياسي، ولكنه لا يكفي لتفسير حالة الاغتراب التي تبتلع كل يوم أعدادا هائلة من الشباب.