مع حلول شهر رمضان المبارك، تتضاعف أنشطة الجمعيات الخيرية في مختلف المدن المغربية، غير أن هذه الأعمال الإنسانية، التي يفترض أن تقوم على مبادئ النزاهة والشفافية، تحولت في مدينة فاس إلى غطاء لممارسات انتخابية مشبوهة، حيث تتلقى بعض الجمعيات أموالًا ضخمة من منتخبين وبرلمانيين بهدف استغلال الفقراء والمحتاجين كأوراق انتخابية، في غياب أي رقابة حقيقية على مصادر تمويل هذه الجمعيات أو أوجه صرفها.
إن ما يحدث في فاس هو جريمة مكتملة الأركان، حيث يتم توزيع المساعدات الرمضانية بشروط سياسية، إذ يُطلب من المستفيدين الإدلاء بمعلوماتهم الشخصية، عناوينهم وأرقام هواتفهم، بل وحتى تصويتهم في الاستحقاقات الانتخابية الماضية، بهدف استغلالهم في الحملات القادمة، هذا النهج الذي تحوّل إلى قاعدة لدى بعض الجمعيات المحسوبة على أحزاب سياسية، يجعل العمل الخيري أداة للابتزاز السياسي، حيث يُشترط على الفقراء الولاء الانتخابي مقابل الاستفادة من المساعدات الغذائية.
ما تقوم به هذه الجمعيات لا يعد فقط استغلالًا للمعوزين، بل هو انتهاك صارخ للقوانين المنظمة للانتخابات والتمويل السياسي، فالقانون رقم 11.57 المتعلق بالأحزاب السياسية يمنع بشكل صريح تلقي الأحزاب لأي تمويلات خارج القنوات القانونية، كما أن القانون رقم 14.113 المنظم للجماعات الترابية ينص في فصله 65 على منع تسخير الممتلكات أو الوسائل العمومية في الحملات الانتخابية، ورغم ذلك، نجد أن بعض الجمعيات تتلقى تمويلات من المجالس المنتخبة سواء من خلال الدعم المباشر أو عبر شخصيات سياسية تشغل مناصب عمومية.
أما من الناحية الجنائية، فإن استغلال الفقراء والتلاعب بمعلوماتهم الشخصية لأغراض سياسية قد يندرج ضمن جرائم النصب واستغلال النفوذ، وهو ما يعاقب عليه الفصل 540 من القانون الجنائي المغربي، الذي ينص على أن كل من استعمل وسائل احتيالية للحصول على منفعة غير مستحقة يُعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات، هذا فضلًا عن خرق القانون رقم 08.09 المتعلق بحماية المعطيات ذات الطابع الشخصي، الذي يمنع جمع أو استغلال بيانات الأشخاص دون موافقتهم.
الأخطر في هذه الفضيحة أن هذه الجمعيات لا تقتصر على تلقي الأموال من المنتخبين فقط، بل تستفيد أيضًا من الدعم العمومي الذي تمنحه الجماعات الترابية، مجلس العمالة، ولاية الجهة، ومجلس الجهة، مما يعني أن أموال دافعي الضرائب تُستعمل بطريقة غير مشروعة لخدمة أجندات سياسية، بدل أن تُوجَّه لخدمة المجتمع بعيدًا عن أي توظيف انتخابي.
كما أن هذه الجمعيات أصبحت تلعب دور الوسيط بين المجالس المنتخبة والمستفيدين من المساعدات، وهو ما يعزز فكرة أن بعض المسؤولين يستعملون العمل الخيري كأداة انتخابية لضمان الولاء السياسي للفئات الهشة، مما يطرح سؤالًا جوهريًا حول دور وزارة الداخلية والسلطات المحلية في مراقبة هذه التمويلات والتأكد من أنها تُصرف في محلها دون استغلال سياسي.
إن استمرار هذا الوضع يضع السلطات المحلية وعلى رأسها والي جهة فاس-مكناس أمام مسؤولية جسيمة، فمن غير المقبول أن تتحوّل الجمعيات الخيرية إلى أذرع انتخابية لأحزاب ومسؤولين منتخبين، في ظل غياب الرقابة والمحاسبة، والمطلوب اليوم هو تحرك عاجل من قبل مصالح وزارة الداخلية من أجل التحقيق في مصادر تمويل هذه الجمعيات، وإلزامها بالشفافية الكاملة في تدبير المساعدات الرمضانية، فضلًا عن إحالة المتورطين في استغلال الفقراء لأغراض انتخابية على القضاء.
إن ما يحدث اليوم في فاس هو وصمة عار على جبين العمل الجمعوي، ومؤشر خطير على التلاعب بمآسي الفقراء من أجل تحقيق مكاسب سياسية، وإذا لم يتم وضع حد لهذا العبث، فإن العملية الانتخابية ستظل رهينة للمال السياسي والاستغلال الفاضح لاحتياجات المواطنين، وهو ما يتناقض مع توجهات الدولة في تكريس الشفافية والنزاهة في الممارسة السياسية.
إن المغرب، تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس، يسعى إلى بناء دولة المؤسسات وتعزيز ثقة المواطنين في العملية الديمقراطية، وهذا يفرض التصدي لكل من يحاول تحويل العمل الخيري إلى وسيلة لشراء الولاءات السياسية، لأن الوطن فوق أي اعتبار، ومصير الفقراء لا يمكن أن يكون رهينة لحسابات انتخابية ضيقة، فهل تتحرك السلطات لوقف هذا العبث، أم أننا سنشهد موسمًا آخر من الاستغلال السياسي لآلام المعوزين؟