في رحاب ثانوية القرويين بمدينة فاس، وبين جدرانها العتيقة التي تنضح بتاريخ العلم وأصالة التربية، سكنت الأستاذة مليكة فلاح، أستاذة العلوم الشرعية، ذاكرة أجيالٍ كاملة بصمتها، ووقارها، وصدقها الذي لا يُخطئه قلب. كانت تسير في ممرات المدرسة كأنها تسير في محراب علم، شامخة بوقار العلماء، متواضعة كتلامذتها، حاملةً في قلبها نورًا من المعرفة، وفي وجهها طمأنينةً تُلهم اليقين.
لم تكن مجرد أستاذة تؤدي دروسها ثم تغادر، بل كانت أمًّا للعلم، ورفيقةً في درب المعرفة، ومربيةً تنذر يومها لصناعة الإنسان. من داخل القسم، جعلت من الحصة الدراسية سفرًا روحيًا وعقليًا، ينهل منه التلاميذ قيمًا وأخلاقًا بقدر ما يتعلمون النصوص والمعارف. كانت ترى في التعليم رسالة مقدسة، وفي الطالب أمانةً يجب صونها، تسقيها بالرعاية، وتوجهها بالكلمة الطيبة، وتغذيها بالصبر والاحتواء.
طالما جلست إلى جانب طلبتها قبل الامتحانات، تهمس في آذانهم بالدعاء، وتحفّهم بالتحفيز، وتغرس فيهم الثقة بأن طريق العلم يحتاج عزيمةً وإيمانًا، أكثر مما يحتاج الحفظ والنقاط. كانت تؤمن أن في كل طالب بذرة خير، يكفي أن تجد من يرويها بالرفق والاحترام حتى تزهر.
واليوم، وقد اختارت الأستاذة مليكة فلاح أن تسلّم مشعل التعليم وتتقاعد بهدوء، لا تزال ذكراها حيّة، نابضة في قلوب من عرفوها، وتلاميذها الذين غدوا اليوم علماء وأئمة، وخطباء ودعاة، وأساتذة جامعات وباحثين، وقضاة ومحامين وصحافيين وكتابًا وإعلاميين ومسؤولين في المغرب وخارجه. ويجمعون على أن مناراتهم الأولى، كانت في حضرة تلك المعلّمة التي لم تكتفِ بتعليمهم، بل علّمتهم كيف يعيشون ما تعلموه.
لم يكن وجودها مجرد مرحلة مهنية، بل أثرًا لا يزول، وسيرةً لا تُمحى. تركت في كل زاوية من زوايا الثانوية، وفي كل قلب عبر فصولها، أثرًا من نور. فحين يتحوّل التعليم إلى عبادة، والعلم إلى حب، والعطاء إلى صدقة جارية، نكون أمام نموذج استثنائي لمربية فاضلة.
وإذا كانت الأستاذة مليكة فلاح قد اختارت أن تنسحب بهدوء، فإن أثرها لا ينسحب، بل يمتد. ويكفي أنها قرنت مهنتها بالصدق، فصارت سيرتها جزءًا من ذاكرة القرويين وضمير التعليم. ولعلّ من عرف زوجها، “الأسد في مجاله”، يدرك أن العطاء في بيتها لم يكن فرديًا، بل شراكة في العلم والرسالة والالتزام.