عيد العرش في عهد الملك محمد السادس… السلطة والرمز والانتماء   

23 يوليو 2025Last Update :
عيد العرش في عهد الملك محمد السادس… السلطة والرمز والانتماء   

 

 

بقلم: إيمان بوسويف.

 

في كل سنة ومع اقتراب ذكرى عيد العرش يتجدد في المغرب ذلك الشعور الجمعي الذي يجمع بين التاريخ والرمز والسياسة والوجدان، حيث أنها لحظة تستعاد فيها صورة الدولة وهي تخاطب شعبها عبر طقوس مدروسة بدقة وليست بروتوكولا محضا، بل فعلا رمزيا كثيف الدلالة يترجم استمرارية المؤسسة الملكية ويؤكد تجذرها في الوجدان الجمعي للمغاربة، فمنذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش سنة 1999 أصبحت هذه المناسبة تحمل أبعادا مركبة تتقاطع فيها السياسة بالعاطفة ويتشابك فيها الرسمي بالرمزي لتتحول إلى ما يشبه المرآة العاكسة للعلاقة بين السلطة والمجتمع.

 

ولا ينظر إلى مثل هذه الاحتفالات باعتبارها مجرد لحظات فولكلورية عابرة بل تحلل باعتبارها لحظات كثيفة المعنى تعيد إنتاج المشروعية السياسية للنظام وتجدد تمثلاته داخل اللاوعي الجماعي، فالملك كما يقول ماكس فيبر ليس فقط مؤسسة سياسية بل هو تجسيد لنموذج من الشرعية تتغذى من التاريخ وتستمد قوتها من الكاريزما ومن القدرة على الاستمرارية داخل مجتمع متحول، وعيد العرش بهذا المعنى هو تمثيل حي لما يسميه بيير بورديو بـالعنف الرمزي أي تلك القدرة الناعمة للسلطة على إعادة إنتاج ذاتها داخل العقول لا من خلال الإكراه بل عبر الطقوس والرموز والاحتفالات التي تجعل الخضوع يبدو طوعيا، بل مرغوبا فيه.

 

إن الحضور المتجدد لصورة الملك في اللباس التقليدي وفي الموكب وفي الخطاب وفي تقليد الأوسمة ليس مجرد استعراض للبروتوكول، بل هو ترميز للثبات في عالم متغير وإعادة ترسيخ للسلطة داخل أطر وجدانية يتقاسمها الجميع، فهو شكل من التماهي السيكولوجي حيث يشعر المواطن أن الملك لا يحكم فقط بل يوجد في مخيلته وفي تاريخه الشخصي وفي وعيه الوجداني بالزمن الوطني، وهذا يحيل إلى أن الزمن السياسي المغربي يقاس بعهود الملوك لا بحكومات أو برلمانات وهو ما يرسخ بنية نفسية جماعية تجعل من الملكية محور الاستقرار ومرجع الهوية السياسية للمجتمع.

 

وعيد العرش يعتبر لحظة لإنتاج الانفعال الجماعي حيث يشعر الأفراد أنهم جزء من كل أكبر منه، ويعيد تعريف ذاته من خلال الولاء والانتماء وكما أشار إريك فروم فإن المجتمعات التي تبحث عن الأمان النفسي غالبا ما تلتف حول رموز السلطة التي تمنحها شعورا بالحماية والقداسة، وهنا تتجلى صورة الملك محمد السادس لا فقط كزعيم سياسي بل كأب رمزي يتماهى معه المجتمع في زمن الأزمة والقلق والتحول، وتمثل لحظة الاحتفال بالعاطفة السياسية حيث تنصهر العقول والقلوب في بوتقة واحدة يختفي فيها الصراع الاجتماعي مؤقتا ليعلو صوت الإجماع والوفاء.

 

وإن ما يجعل هذه اللحظة ذات طابع خاص في عهد محمد السادس هو التحول في مضمون الخطاب الملكي الذي ابتعد عن الطابع السلطوي المغلق وانفتح أكثر على لغة التواصل والإصغاء والقرب والاستباق، فالملك في وعي المجتمع لم يعد الضامن الأعلى لاستمرارية الدولة فحسب. بل أصبح أيضا صوت العقل في لحظات الانفلات وصوت القلب في زمن المعاناة، وهذا ما يفسر تلك الحمولة الوجدانية التي ترافق الاحتفال بعيد العرش والتي لا تنفصل عن تمثلات الشعب للملك كمواطن أول يتقاسم معهم الأفراح والمآسي والحزن والأمل.

 

وفي خطب الملك المتكررة في هذه المناسبة المتجددة لا يتحدث الملك بلغة المنتصر أو المتسلط، بل بلغة القائد الأخلاقي الذي ينصت ويذكر ويقيّم ويوجه، وهذا يعيد للأذهان مقولة بول ريكور بأن السلطة التي تنصت لا تمارس الحكم فقط بل تعيد تأهيل ذاتها في ضمير الناس، فبخطاب واحد قد يختزل الملك إحباطات مجتمع بأكمله، لكنه يعيد توجيهها نحو أفق جديد، ولذلك فإن خطاب العرش ليس مجرد بيان سياسي بل هو في كثير من الأحيان نوع من التحليل النفسي الجماعي يمارس على الأمة دفعة واحدة ويمنحها نوعا من التوازن العاطفي الذي يجعل الاستمرار ممكنا.

 

وإن أهمية الاحتفال بعيد العرش لا تكمن فقط في طقوسه بل في قدرته على إعادة ترسيخ الذاكرة الجماعية وتدوير السردية الوطنية بشكل دوري، فالزمن الملكي كما يعاد إنتاجه كل سنة هو زمن يعلو فوق الزمن اليومي، ذلك أنه الزمن الرمزي الذي تنتظم حوله الدولة والمجتمع والذي يمنح المغرب وسط أزماته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية نوعا من الإحساس المتجدد بالهوية والاستقرار.

 

ويقول هايدغر في هذا الصدد أن الاحتفال لا يظهر فقط ما هو موجود بل يخفي ما يجب أن ينسى لكي تستمر الحياة، وفي هذا المعنى فإن عيد العرش ليس فقط تذكيرا بما تحقق بل هو أيضا إغفال مؤقت لما لم يتحقق وهو بذلك يمارس نوعا من النسيان العمومي المؤقت لصالح لحظة وطنية خالصة تتجاوز الحساب السياسي لتدخل مجال الشعور الوطني الغامض لكن عميق.

 

وعليه فإن الاحتفال بعيد العرش في عهد الملك محمد السادس هو أكثر من طقس وأعمق من ذكرى، لأنه لحظة رمزية كثيفة تتشابك فيها السياسة مع العاطفة ويتقاطع فيها الوعي التاريخي مع الحاضر، ويعاد من خلالها إنتاج العلاقة بين الملك والشعب في قالب وجداني وعقلاني ووحدوي يستمر رغم كل التحولات، ذلك أن الشرعية لا تصنع فقط بالقوانين بل تصنع أيضا بالمحبة لأنها وحدها تمنح السلطة بعدها الأخلاقي.

اترك رد

Breaking News