إمارة المؤمنين كجهاز رمزي لإنتاج الإجماع وإعادة إنتاج الهوية الجماعية في المغرب.

ساعتين agoLast Update :
إمارة المؤمنين كجهاز رمزي لإنتاج الإجماع وإعادة إنتاج الهوية الجماعية في المغرب.

إ

يحتفي المغرب بعيد العرش، لا بوصفه مناسبة بروتوكولية محضة، بل كتجسيد حيّ لمسار تاريخي ممتد، تتعانق فيه رمزية الدولة مع عمق الهوية، وتلتقي فيه شرعية الحكم مع تماسك الاجتماع. إنها لحظة يُستعاد فيها المعنى العميق لإمارة المؤمنين بوصفها العمود الفقري للدولة المغربية، لا في بعدها السياسي فحسب، بل في وظيفتها الروحية والثقافية كمرجعية ضامنة للوحدة ومجسدة للإجماع الوطني.

إن إمارة المؤمنين ليست جهازًا سلطويًا يُمارَس من فوق، بل هي تعاقد رمزي ووجداني عميق بين الملك والشعب، يستند إلى مؤسسة البيعة بما تحمله من دلالات التلاحم والثقة، لا القسر والإكراه. ومنذ اعتلاء صاحب الجلالة الملك محمد السادس عرش أسلافه الميامين، جسّد العهد الجديد هذا المعنى المتجدد للملكية، حيث أصبحت الروابط الجامعة بين العرش والشعب أكثر رسوخًا، وأشدّ تماسكًا، في زمن التفكك والانشطارات الهوياتية.

يقول مارسيل موس إن الطقوس ليست مجرد تكرارات شكلية، بل هي آليات لإعادة إنتاج المعنى الجماعي وترسيخ الانتماء. ومن هذا المنظور، فإن الاحتفال بعيد العرش يتجاوز طقوس الدولة إلى كونه فعلًا جماعيًا يعيد إنتاج الذات الوطنية ويستعيد رموزها في سياق تحولات محلية ودولية معقدة. فالمغرب، المحكوم بالتعددية الثقافية والجغرافية، يجد في إمارة المؤمنين نقطة التقاء رمزي، حيث تذوب الاختلافات في نهر الوفاء المشترك.

ولعل أكثر ما يُميّز الملكية المغربية في عهد محمد السادس هو سعيها المستمر لتجديد شرعيتها لا من خلال الانغلاق على الطقوس التقليدية، بل من خلال مواكبة التحولات الاجتماعية والسياسية دون التفريط في الثوابت. إنها ملكية ذات حمولة دينية عميقة، لكنها لا تختبئ خلفها، بل تجعل منها أساسًا للتجديد والتحديث. فالعقل السياسي المغربي المعاصر، كما يظهر من السياسات الملكية، قد فهم منذ وقت مبكر أن الدولة لا تصمد بشرعية القوة، بل بشرعية المعنى.

لقد شكّل خطاب الملك محمد السادس مرارًا تعبيرًا عن إدراك عميق لانتظارات المجتمع، كما لو أنه يستلهم عبارة الفيلسوف بول ريكور حين قال إن الحاكم العادل هو من يمنح صوته لمن لا صوت لهم. لذلك، فإن ارتباط الملك بالشعب لا يتجلى فقط في الشعارات، بل في اختيارات استراتيجية جوهرها بناء دولة حديثة تتسع لكل أبنائها، وتُحسِنُ إدارة التوازن بين الأصالة والتحديث.

إن قوة النموذج المغربي تكمن في تفاديه لمآزق الدول الهوياتية، التي تحاول بناء شرعيتها على الإقصاء أو التجانس القسري. فإمارة المؤمنين ليست ضد التعدد، بل هي راعية له، ومؤسسة البيعة ليست نفيًا للديمقراطية، بل هي شكل تقليدي للشرعية السياسية جرى تحديثه ضمن مسلسل متدرج للإصلاحات السياسية والدستورية. ومن هنا يتبدى ذكاء النسق الملكي المغربي، الذي لا يتكلس في الماضي، ولا يذوب في الحاضر، بل يبني مستقبله من تفاعل هذين البعدين في آن.

وكما أشار عالم الاجتماع إيميل دوركايم، فإن المجتمع لا يقوم فقط على المصالح، بل على الرموز التي تمنحه المعنى. وفي المغرب، تبقى الملكية هي الرمز الجامع، الذي يربط الذاكرة الجماعية بالرهانات المعاصرة، ويمنح للعيش المشترك ضمانته الروحية والسياسية. إنها التعبير الأسمى عن وطنية غير قابلة للتفكك، لأنها لا تقوم على المصلحة العابرة، بل على المعنى المتجذر.

وهكذا، يُصبح عيد العرش محطةً لإعادة تثبيت هذا التعاقد الجماعي، لا عبر الكلمات فقط، بل عبر ما يُختزن في الوجدان المغربي من تقدير لما تمثله الملكية من رمزية، ولما تحققه من استقرار. لقد راكم المغرب، بفضل قيادة جلالة الملك، نموذجًا سياسيًا أصيلاً قادرًا على التفاعل مع متغيرات العالم دون فقدان بوصلته السيادية. وبينما تتهاوى أنظمة وتتآكل أخرى تحت وطأة التوترات، يظل المغرب صامدًا في وجه العواصف، لأن أساسه ليس القوة الصلبة وحدها، بل قوة الشرعية والإجماع.

ومن هذا الموقع، فإن عيد العرش ليس مجرد ذكرى، بل هو طقس سياسي واجتماعي يستنهض الذاكرة، ويعيد وصل الحاضر بالماضي، ويفتح أبواب الأمل نحو مستقبل يُصاغ بتوافق جماعي تحت سقف إمارة المؤمنين، التي تظل جوهر الإجماع المغربي وركيزة الأمن الرمزي للدولة والمجتمع.

اترك رد

Breaking News