الملكية والتنمية المجالية … كيف أعادت الإصلاحات الملكية رسم الخريطة الاجتماعية والسياسية للريف والصحراء؟

29 يوليو 2025Last Update :
الملكية والتنمية المجالية … كيف أعادت الإصلاحات الملكية رسم الخريطة الاجتماعية والسياسية للريف والصحراء؟

بقلم: ذ عماد شحتان

تبدو علاقة الملكية بالمجال المغربي علاقة مؤسسة وفاعلة تتجاوز الطابع الرمزي إلى الأدوار الهيكلية في إعادة إنتاج الدولة وتوجيه تحولات المجتمع، فالنظام الملكي في المغرب لا يتموضع فقط كحاكم أعلى بل كفاعل محوري في البناء التنموي والإصلاح المؤسساتي واستباق الأزمات وصياغة التوازنات، ولعل النموذج الأوضح لذلك يبرز في تفاعل المؤسسة الملكية مع منطقة الريف، هذا المجال الذي يحمل ذاكرة اجتماعية معقدة ومشحونة بتاريخ من التوترات والانتظارات، فكان على الملكية أن تتعامل مع هذا الامتداد الجغرافي الحاد الحساسية بمنطق مزدوج يجمع بين الانفتاح على مطالب المجال وتبديد المظالم التاريخية من جهة، وبين فرض حضور الدولة التنموية عبر مشاريع مهيكلة من جهة أخرى

منذ اعتلاء صاحب الجلابة محمد السادس العرش سنة 1999، لم تتأخر إشارات الانعطاف الملكي نحو الأقاليم الشمالية، فالزيارات المتكررة للملك إلى الحسيمة والناظور وتطوان والمضيق لم تكن مجرد تنقلات بروتوكولية بل رسائل سياسية تتضمن اعترافاً رمزياً وقانونياً برفع العزلة، واستراتيجية لتجاوز آثار التهميش التاريخي الذي لحق بالمنطقة، فشهد الريف منذ أوائل الألفية تحولات عمرانية وتنموية لافتة، بدءًا بمشاريع البنية التحتية، من قبيل ربط الحسيمة بالطريق السيار عبر تازة، وإنشاء ميناء بني أنصار، وتوسيع الميناء المتوسطي بطنجة، و إنشاء الميناء المتوسطي يالناظور وإنشاء مراكز استشفائية ومرافق جامعية وتعليمية في الناظور والحسيمة، ومناطق صناعية ومنتجعات سياحية، إلى جانب مشاريع السكن الاقتصادي وبرامج محاربة السكن الغير اللائق.

الملكية لعبت دور القاطرة في تفعيل مشروع “الحسيمة منارة المتوسط”، وهو مشروع ضخم انطلق سنة 2015 بميزانية قاربت 6.5 مليار درهم، يهدف إلى إحداث قطيعة مع الفقر البنيوي للمجال الريفي عبر إنشاء مستشفيات ومدارس ومعاهد ومراكز ثقافية وملاعب رياضية وطرق وشبكات ربط كهربائي ومائي، ورغم ما عرفه المشروع من تعثرات وأعطاب في الإنجاز أدت إلى اندلاع أحداث الحسيمة فإن التفاعل الملكي مع الحدث لم يكن سطحياً، بل اتسم بالحزم والصرامة، حيث أعفى الملك عدداً من الوزراء والمسؤولين على خلفية تقرير المجلس الأعلى للحسابات، وهو ما اعتبر لحظة محاسبة غير مسبوقة في التاريخ الإداري المغربي، تجسد الوظيفة التصحيحية للملكية حين تُخفق الإدارة وتفشل النخب المحلية في أداء أدوارها.

وإذا كان الريف يشكل نقطة تركيز بارزة، فإن باقي مناطق المغرب لم تظل خارج منطق الإصلاحات الملكية، إذ اعتمد الملك محمد السادس رؤية تنموية شاملة تتجلى في المشاريع الكبرى كالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي انطلقت سنة 2005 وركزت على محاربة الفقر والإقصاء والهشاشة، ثم الإصلاحات الاجتماعية الكبرى كإصلاح التعليم، وتعميم التغطية الصحية، وإطلاق السجل الاجتماعي الموحد، ومشروع الحماية الاجتماعية الذي يعد من أبرز ثمار العقدين الماضيين، إلى جانب إطلاق الرؤية الجديدة للنموذج التنموي سنة 2021، التي حاولت إعادة تعريف الأولويات الاقتصادية والاجتماعية للدولة في أفق 2035.

أما في ملف الصحراء المغربية، فقد كانت المؤسسة الملكية حاسمة في إعادة صياغة تموقع المغرب الجيوسياسي والدبلوماسي، إذ تمكن الملك من نقل القضية من فضاء التفاوض العقيم داخل الأمم المتحدة إلى مسار التموقع الدولي الواقعي القائم على الشراكات الاقتصادية والاعترافات المتزايدة بالسيادة المغربية، حيث كان من أبرز المحطات التوقيع على اتفاقيات كبرى مع دول أفريقية وأوروبية وأمريكية، وتدشين قنصليات أجنبية في الداخلة والعيون، وكذا الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء سنة 2020، وهو تحول استراتيجي لم يكن ليتم لولا التحركات الدبلوماسية التي أشرف عليها الملك شخصياً، إلى جانب تسريع وتيرة التنمية في الأقاليم الجنوبية عبر مشاريع ضخمة تشمل البنيات التحتية، والطاقات المتجددة، والقطاعات اللوجستيكية والموانئ، مما رسخ فعلياً اندماج هذه الأقاليم في الدورة الاقتصادية الوطنية

إن المؤسسة الملكية بالمغرب لا تشتغل بمنطق التسيير اليومي فقط بل تنخرط في هندسة المجال والدولة، وهي بذلك تتجاوز كونها ضامنة للاستقرار إلى فاعل إصلاحي يضخ شرعية الفعل التنموي في الجغرافيا المنسية، ويعيد تعريف علاقة الدولة بالمجال والمجتمع، وفي الريف كما في الصحراء كما في سوس والجنوب الشرقي، كانت الملكية حاضرة لا لتعيد إنتاج التراتبيات فحسب، بل لتعيد تأسيسها وفق منطق يجعل من الدولة الاجتماعية والإنصات للمجال عناصر تأسيسية في فهم النسق السياسي المغربي وخصوصيته التاريخية والمؤسساتية

اترك رد

Breaking News