قراءة سوسيولوجية في الخطاب الملكي

30 يوليو 2025Last Update :
قراءة سوسيولوجية في الخطاب الملكي

.

الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش السادس والعشرين يشكل لحظة دالة لفهم طبيعة العلاقة التي تنسجها المؤسسة الملكية مع المجتمع والدولة، ويكشف عن عدد من الديناميات العميقة التي تتحكم في إنتاج السلطة الرمزية والسياسية بالمغرب. فالخطاب لا يكتفي بوظيفة التواصل المؤسساتي بل يؤدي دورًا بنيويًا في إعادة ترتيب العلاقة بين الدولة والمواطنين، وتثبيت موقع الملكية كقطب ناظم وموجه فوق حزبي، يمتلك شرعية تاريخية ودينية وتنموية.

يبدأ الخطاب من منطلق وجداني يعيد إنتاج العلاقة البيعتية في شكل حداثي، من خلال استحضار شعائر الوفاء والثقة المتبادلة بين الملك والشعب، وهو استهلال لا يخلو من أبعاد رمزية تعكس تصورا معينا للدولة باعتبارها امتدادا لشخص الملك، مما يعيد إلى الأذهان ما يسميه بيير بورديو بـ”الرأسمال الرمزي” الذي يسمح للسلطة بإعادة إنتاج ذاتها عبر التاريخ والطقوس والخطابات. وهذا النمط من الشرعية لا يعتمد فقط على الأداء المؤسساتي بل على صناعة وجدانية متواصلة تجعل من شخص الملك محورًا للتماسك الاجتماعي والسياسي.

يتضح من بنية الخطاب أن التنمية تظل الرافعة الأساسية التي ترتكز عليها الملكية لتبرير اختياراتها وتثبيت مشروعيتها. فالحديث عن النهضة الصناعية وتضاعف الصادرات وارتفاع مؤشرات التنمية يعكس من جهة إقرارا بالدور المركزي للدولة كفاعل اقتصادي أول، لكنه من جهة أخرى يعيد التأكيد على الطابع الأبوي للسلطة، حيث يقدم الملك نفسه ليس فقط كضامن للاستقرار، بل كمهندس أول للتقدم. وهنا تظهر الدولة في صيغتها التقليدية الحديثة، حيث تتزاوج الوظيفة الرعوية مع عقلانية التخطيط، لكن ضمن أفق يظل مركز القرار فيه محتكرا في قمة الهرم السياسي.

الاعتراف بوجود فوارق مجالية ومظاهر للفقر والهشاشة، لا سيما في العالم القروي، يشكل لحظة نادرة في الخطاب الرسمي، لكنه لا يُترجم إلى مساءلة أو نقد للخيارات الحكومية، بل يُعاد إدماجه ضمن سردية تتجه نحو المستقبل، عبر دعوة إلى نقلة جديدة تعتمد مقاربات تنموية مندمجة. غير أن هذه المقاربات تظل محكومة بإطار مركزي صارم، حيث يُطلب من الحكومة، بتوجيه ملكي مباشر، إعداد جيل جديد من البرامج، الأمر الذي يبرز محدودية استقلالية الفعل العمومي، ويعيد الاعتبار لما يسميه ميشيل فوكو بـ”حكومية الدولة”، أي تدخلها الضمني والمعلن في أدق تفاصيل الحياة المجتمعية.

في الشق السياسي، يظهر التحكم البنيوي للمؤسسة الملكية في سير الحياة الانتخابية من خلال التوجيه المسبق لوضع المنظومة القانونية المؤطرة للانتخابات، وهو ما يكشف حدود الفعل الحزبي والمؤسسات الوسيطة التي تشتغل ضمن مجال محدد سلفًا. فالانتخابات ليست لحظة مفصلية لإعادة تشكيل السلطة، بل لحظة إدارية ينبغي إعدادها وفق خارطة طريق مضبوطة، مما يترجم استمرارية النموذج السلطوي الموجه، وإن كان بلبوس دستوري حداثي.

أما على المستوى الخارجي، فإن الخطاب يراهن على سياسة “اليد الممدودة” تجاه الجزائر، وهي سياسة لا تُفهم فقط من منطق الجوار، بل من خلال بناء رمزية أخلاقية تتفوق بها الملكية على الخلاف السياسي. فالدعوة إلى الحوار الأخوي والصادق تعزز صورة المغرب كدولة مسؤولة، وتُنتج تمثلاً ذاتيًا للملك باعتباره صوت الحكمة في منطقة متوترة. هذا التوجه يندرج ضمن ما يمكن تسميته بالديبلوماسية الرمزية، حيث يصبح الخطاب أداة لتثبيت الهيبة وكسب المشروعية في الخارج كما في الداخل.

وفي سياق الصحراء المغربية، يُستثمر الاعتراف الدولي بمبادرة الحكم الذاتي لتقوية الطرح المغربي، مع الإشارة إلى أن حل النزاع ينبغي أن يكون توافقيا، لا غالب فيه ولا مغلوب، وهو ما يعكس مرونة تكتيكية تستهدف التوازن بين الواقعية السياسية والهيبة الوطنية، دون التفريط في الخط الأحمر المتعلق بالسيادة.

في المجمل، يشكل الخطاب الملكي ممارسة للسلطة عبر اللغة، إذ يعيد ترسيم الفضاء العمومي والحدود الممكنة للفعل السياسي والاجتماعي. إنه خطاب يستبطن أطروحة مفادها أن الملكية ليست فقط رمز وحدة، بل فاعل مباشر في إدارة التحولات، وموجه استراتيجي للدولة والمجتمع، في نموذج لا يترك للوسائط المؤسساتية سوى أدوار تنفيذية وتكميلية. ومن خلال هذا النسق، يُعاد إنتاج نموذج الدولة من فوق، حيث تُرسم السياسات، وتُبنى المشاريع، وتُدار المبادرات من موقع مركزي يختزل الدولة في رمزها الأسمى، ويعيد ترتيب السلطة على إيقاع العقل الملكي وحده.

اترك رد

Breaking News