لحظة مشحونة بالرمزية الروحية والوطنية، تلك التي تجلّت في حفل الولاء الرسمي بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لجلوس صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله على عرش أسلافه المنعمين، حين برز حضور الدكتور مولاي منير القادري البوتشيشي، نجل شيخ الزاوية القادرية البوتشيشية، سيدي جمال القادري البوتشيشي حفظه الله، ونائبه في تدبير شؤون الطريقة، إلى جانب الشاب معاذ البوتشيشي، في مشهد يكثّف الرسائل ويحيي جذور العلاقة العميقة بين العرش العلوي والزوايا المغربية.
حضور الدكتور منير، بدعوة ملكية سامية، لا يُقرأ فقط في إطاره البروتوكولي، بل يحمل دلالات رمزية تؤكد استمرارية الثقة المولوية في رجالات التصوف المغربي المعتدل، وتجدد الاعتراف بالدور الحيوي للزاوية البوتشيشية كفاعل روحي وثقافي، لم يحد يومًا عن ثوابت المملكة، ولا تخلف عن واجباته في ترسيخ قيم السلم، والتربية، وخدمة الأمن الروحي للمواطنين.
وإذا كانت الزوايا، كما قال أحد العارفين، “مقاماتٌ من نور، يَفِدُ إليها القلب ليذكر، وتمتد منها الروح لتبني”، فإن مشهد حضور منير القادري ومعاذ البوتشيشي في قلب الاحتفال الوطني، يُعيد الاعتبار لتلك المقامات، ويُعلن بوضوح أن الدولة، في أعلى تمثيلها، لا تغيّب عن نظرها مَن صدقوا الوعد والتزموا النهج.
بهذه الروح، يأتي الحضور البوتشيشي ليقول إن العهد لم يُنقض، وإن العرش لم يُغفل من كان سندًا له في الشدائد، ودعامة له في الرخاء، وإن الخلافات العابرة لا تغيّر من مكانة من رسّخوا حب الوطن في القلوب، وخدموا قيم الدين بصفاء النية ونقاء السريرة.
وقد أكد جلالة الملك محمد السادس، في خطاب عيد العرش لسنة 2025، هذا الارتباط العميق بين مؤسسة إمارة المؤمنين والمرجعيات الروحية للأمة، حين قال:
“نحن حريصون على تقوية التلاحم بين الدولة والمجتمع، وصيانة الروابط الروحية والثقافية التي تجمع المغاربة، لأنها تشكل صمام أمان واستقرار في وجه كل تقلبات الزمن.”
إن العلاقة بين العرش والزوايا، وعلى رأسها الزاوية البوتشيشية، ليست علاقة عابرة أو ظرفية، بل هي علاقة متجذّرة، تتجدّد في كل مناسبة، وتثبت أن المغرب، دولة وقيادة، وفيٌّ لرموزه الروحية، وحريص على استمراريتها في إطار الثوابت الجامعة.
فلا غرابة إذن أن يحضر أبناء الشيخ، قديمًا وحديثًا، في مثل هذا الموضع الرفيع، حيث يتجلّى الوفاء الملكي في أوضح صوره، وتُمنح الرسائل لمن يهمهم الأمر: أن المقامات تُحترم، وأن الدولة لا تنسى من كان لها رفيقًا في دروب البناء والتنوير .
ومما يلفت النظر في هذا الحضور أيضًا، تلك الرسالة الضمنية العميقة التي تبعثها الدولة من خلال التعامل المتوازن مع أبناء البيت البوتشيشي الواحد؛ فالمقام، في عُرف الزوايا، لا يُفاضل بين الأبناء بالظهور أو الصوت، وإنما يُقدَّر بالصدق في الحمل، والوفاء للعهد، والانتماء للمسار الروحي الذي أسسه الشيخ وجمع عليه أهل البيت والمريدين. ومن ثم، فإن حضور الدكتور منير القادري لا يُقصي أشقاءه، بل يُعبّر عن استمرارهم جميعًا، أفرادًا وعائلة، في صلب المشهد الوطني والروحي، ما داموا جميعًا ينتمون إلى ذات البيت، وذات المدرسة، وذات العهد.
فالزاوية ليست شركة تُوزَّع فيها المناصب، ولا ساحة تنافس تُمنح فيها الألقاب، بل مَقام روحي موصول بالسند، فيه من الرحابة ما يَسَع الجميع، ومن البركة ما يُفيض على الكل. وإذا كان منير القادري يُمثل الواجهة الرسمية للزاوية في هذا المقام، فإن إخوته يظلون في منزلتهم الاعتبارية كأبناء الشيخ، لا يُنقص من قدرهم اختلاف الأدوار، ولا يُقصيهم توزّع المهام، ما دامت المرجعية واحدة، والمشيخة واحدة، والقصد إلى الله ورسوله ومقام الوطن لا يتفرّق فيه الصف ولا يُختَبر فيه القلب.