في قلب المغرب المنسي، حيث تنام دواوير جماعة رأس العين وجماعة أولاد اشبانة وواد النعناع على ضجيج الصمت، تعيش الساكنة وضعًا مأساويًا تجاوز حدود الاحتمال: انقطاع شامل للماء الصالح للشرب لمدة تجاوزت الأسبوع، بعد ثلاثة أشهر من الانقطاعات المتكررة التي عكرت صفو الحياة اليومية وحوّلت أبسط مظاهرها—كالشرب والنظافة والطهي—إلى معاناة يومية تنضح بالذل والمهانة.
في هذه البقاع القروية، لا يسقط الماء من السماء ولا يصعد من الأرض، بل يغيب عن الحنفيات كما تغيب الدولة عن هوامشها. السكان الذين لا يزالون يؤدون فواتير هذه الخدمة الغائبة، يتساءلون بمرارة: لماذا لا ينقطع الماء في المدن حيث الكثافة والضجيج؟ لماذا لا يعاني المواطن الحضري من العطش بينما يُترك القروي يلعق المرارة، كمن وُلد ليعاني فقط لأنه يسكن في المكان الخطأ؟
هذا السؤال ليس مجرد استفسار بريء، بل هو صرخة ضد بنية تمييزية تستبطن التراتب الجغرافي والبشري، وتجعل من الانتماء إلى “العالم القروي” قدرًا اجتماعيًا لا يرحم. كما قال بيير بورديو: “إن العالم الاجتماعي يُنتج تمايزاته كما تنتج الطبيعة جغرافيتها القاسية.” فهنا، لا يتعلق الأمر فقط بغياب الماء، بل بانكشاف عار السياسات التي تُدير البلاد بمنطق التفاوت والتمايز، حيث تُوزّع الموارد لا حسب الحاجة، بل حسب النفوذ.
تبدو الجهات المعنية بتدبير الماء كأنها خارج الزمن، عاجزة عن توفير جواب بسيط لسؤال مركب: لماذا لا يصل الماء إلى هؤلاء؟ لكن الأدهى أن هذا الغياب لا يُقابل سوى بالصمت الرسمي، وكأن عطش آلاف المواطنين لا يستحق حتى تفسيرًا أو اعتذارًا. ما الذي يفسر هذا التجاهل الممنهج؟ أهو الاستهتار، أم احتقار ساكنة لا تصرخ بما يكفي، ولا تسكن في الخرائط الإدارية إلا كأرقام؟0
هذا التفاوت لا يُعدّ فقط خللًا في التوزيع، بل هو نوع من العنف الرمزي الذي يُمارس في صمت، حيث يُطلب من الفقير أن يصبر، ومن المهمش أن يتحمّل، ومن القروي أن يقبل بحاله لأنه “ليس وحده”. لكن كما يقول ميشيل فوكو: “ليس ثمة ممارسة للسلطة دون مقاومة.” وما يحصل اليوم في رأس العين ليس سوى صورة من صور المقاومة الصامتة التي تعبّر عنها أجساد عطشى، وأرواح موجوعة، وأطفال ينامون بلا ماء.
كل ذلك يحدث في مغرب 2025، مغرب ما بعد الزلازل والجوائح والخطابات الملكية التي لا تفتأ تذكّر المسؤولين بضرورة إعطاء الأولوية للعالم القروي، وآخرها خطاب العرش الذي شدّد فيه جلالة الملك محمد السادس نصره الله على العدالة المجالية والإنصاف الاجتماعي، مؤكدًا أن تنمية القرى والمناطق النائية ليست منّة ولا صدقة، بل التزام وطني وإنساني. لكن، ما نفع الخطاب إذا لم يجد طريقه إلى التنفيذ؟ من الذي يخذل جلالة الملك؟ من الذي يحول رسائله إلى حبر على ورق؟
هنا، لا يتعلق الأمر بتقصير تقني، بل بمأساة أخلاقية. عندما يُحرم الإنسان من الماء، فإن الأمر لا يخص “الخدمة العمومية” فقط، بل يمس كرامته في جوهرها. فأن تُجبر عائلة على المشي كيلومترات للبحث عن دلو ماء، وأن تُضطر نساء الدواوير إلى غسل ملابس أطفالهن بمياه الآبار المالحة أو القذرة، فذلك ليس عطبًا في الأنابيب، بل في الضمير.
الساكنة تسأل، والجواب غائب. لكن الصمت لم يعد كافيًا. فإما أن تكون حياة القروي كريمة كما يريدها جلالة الملك، أو أن تظل السلطة، في تمثلاتها المركزية والمحلية، تفضح نفسها بوصفها سلطة غير مبالية. وكما كتب سيغموند فرويد: “إن تجاهل الألم لا يُبطله، بل يرسّخه في لاوعي الجماعة.” وما تُراكمه جماعة رأس العين اليوم، هو جرح جماعي سيكبر مع الزمن، وسيتحوّل إلى مرآة تُواجه بها الدولة نفسها.
إن من يعيش العطش لا يطلب ترفًا، بل حقًا. ومن يُحرم من الماء لا يثور من أجل السياسة، بل من أجل الحياة. وبين قيادة رأس العين، ومؤسسات تدبير الماء، وخطابات جلالة الملك، تقف الحقيقة عارية: العالم القروي لا يحتاج للشفقة، بل للعدالة.