خرجت علينا مايسة سلامة الناجي مجددا، لا باعتبارها مفكرة أو فاعلة أو حتى مواطنة مزعجة، بل كعادتها حالة نفسية مزمنة تبحث عن جمهور يعيد تشكيلها كلما تصدعت داخلها صورة المرأة التي تعرف كل شيء، فخرجت من فندق فاخر بشعر منسدل بعناية مكلفة، لتتلو علينا من على بحر ما خطبة عصماء تبدأ من حظر رقم، وتنتهي بـبلوكاج حكومي ولا تجد بينها سوى فراغات تشبه تماما نصوصها المليئة بكل شيء إلا المعنى.
فالصحفي المغربي نور الدين لشهب وبعد صبر قارب فضيلة الأنبياء، قرر أن يخلع قفاز الدبلوماسية ويكاشف الرأي العام بما كان كثيرون يهمسون به في الصالونات الخلفية، وهو أن مايسة مجرد قناع معد بإتقان لمخاطبة جمهور مستلب يصدق أن الصراخ موقف وأن الكاميرا ضمير وأن من تكثر من اللايفات تفكر أكثر.
فالدكتور لشهب الذي عايش تفاصيل هذا المسلسل منذ موسمه الأول، روى في بث دام أكثر من أربعين دقيقة حكاية شخصية ادعت الصدق وخانت وتقمصت المعارضة وباعت، وتذمرت من السلطة لأنها لم تمنحها وسام التميز، بل وكشف أن السيدة التي تملأ الفضاء الرقمي ادعاء بالكرامة، لم تكن سوى واجهة قابضة، فقد قالها بوضوح فاضح أنها تلقت مبالغ مالية مهمة من رجل دولة نافذ ، لتقوم بدور لا تحسنه، وهو تخريب بنكيران سياسيا، لكنها كعادتها لم تفعل شيئا سوى تكديس المال والظهور في صور مفلترة.
فالسيدة بدل أن تنفي هذه الاتهامات أو تواجهها كما يفعل الكبار، لجأت إلى سلاحها الأوحد وهو النفي الانفعالي، ومن على مقعد الاسترخاء في منتجع مطل خرجت لتحدثنا عن البلوك، ذاك الفعل الرقمي الصغير الذي تحول في عقلها إلى معركة أخلاقية وإلى حدث سياسي وإلى سبب يجعل رجلا بحجم الدكتور نورالدين لشهب يخرج عن صمته، فهل حقا تظن أن الرجل فقد أعصابه لأن رقم هاتفه صار في مقبرة الحظر؟ أم أن النرجسية حين تبلغ ذروتها تجعل صاحبها يعتقد أن العالم يدور حول شاشة هاتفه؟
فالسيدة مايسة لا تناقش ولا تفكر ولا تقترح، فهي فقط تتلو وتزبد وتخلط بين الفلسفة والشعوذة، فحين تتكلم تشبه ذلك الطفل الذي يرتدي بذلة والده ظنا أنه أصبح راشدا، وتتقمص الخطاب النقدي لكنها تسقط في خطاب لا يتجاوز الطقطقة الافتراضية، فمن يتابعها يدرك أنها لا تصدر عن رؤية بل عن حاجة مرضية للظهور وللانتباه وللإحساس بأنها موجودة، ذلك النوع من الحضور الذي يعتمد على اللايكات كما يعتمد الجسد على التنفس.
فقد ادعت هذه السيدة والتي تسمى مايسة سلامة الناجي في إحدى نوباتها الخطابية أنها تدير جمعية بميزانيات ضخمة، ثم تحدثت بلامبالاة فجة عن نيتها شراء فيلا بدل كراء شقة بكل براءة مصطنعة، فكشفت من حيث لا تدري ما يمكن أن يشكل ملفا قضائيا متكامل الأركان، قوامه تبديد المال العام عبر منح نفسها أجرا سريا للالتفاف على القانون معنون بالإنفاق الجمعوي في خدمة الترف الشخصي، وأما عقلها النقدي فكان مشغولا بكيفية إسقاط هذه الفضائح على فكرة الإسلاميين لأنهم بحسبها يشنون حملة ضدها فقط لأنها قامت ببلوكاج لرجل لا تملك حتى رقمه.
إنها عبقرية استثنائية في تحوير الوقائع وفي تحويل تهم خطيرة إلى نكتة سيئة الإخراج، فالسيدة تتعامل مع الفضيحة كما يتعامل المراهق مع الفشل العاطفي، بصراخ بلا معنى وهروب نحو لا أحد، وحين ينفد منها الكلام تلجأ إلى ذلك التكرار الممل للحديث عن المؤامرة، وتبدأ في تلاوة تعويذاتها الرقمية ضد الشعبوية، وهي التي بنت اسمها على ظهور الشعبوية نفسها.
فالسيدة مايسة سلامة الناجي لا تكتب بل تترجم أزماتها، ولا تفكر بل تتقيأ قلقها على شكل منشورات، ولا تحلل بل تصف حالتها النفسية كما يصفها الطبيب في جلسة تشخيص أولى، ولا تصنع خطابا بل تعيد تدوير الارتباك، فمن يقرأها لا يجد فكرة بل يتوه وسط الأنين والمرارة المتصنعة، وشيء من الغضب المعلب الجاهز للاستهلاك.