في قلب إقليم سطات، وبين تضاريس جماعات أولاد اشبانة، واد النعناع، ورأس العين، تتوالى فصول أزمة خانقة وغير مسبوقة: انقطاع الماء عن السكان منذ أكثر من أسبوع كامل، في ظل درجات حرارة مفرطة، وطلب متزايد على هذه المادة الحيوية، التي لم تعد فقط شريان حياة، بل تحوّلت إلى أداة للتمييز واللامساواة المجالية. والمفارقة المؤلمة أن الأمر لا يتعلق بمنطقة منكوبة أو هامشية في تخوم الصحراء، بل بجماعات تربض تحت إدارة جماعية ومجالية لا تزال تعيش بمنطق القرون الماضية.
إن ما يجري اليوم في جماعات قيادة رأس العين ليس مجرد خلل تقني عابر، ولا مجرد حادث عرضي في شبكة التزويد بالماء الصالح للشرب، بل هو صورة مصغّرة عن أعطاب الدولة المحلية، وتعبير فاضح عن هشاشة البنية التحتية، واستقالة المسؤولين المنتخبين، ولامبالاة المصالح المركزية. إنها لحظة يتقاطع فيها السياسي بالإداري، ويتقاطع فيها الاجتماعي بالإيكولوجي، لتكشف لنا زيف الخطاب التنموي الذي يردده المسؤولون عن العدالة المجالية.
وحدها جماعة أولاد اشبانة، مدعومة بجماعة واد النعناع، تحرّكت في مواجهة هذا الوضع الكارثي، بقرارات استعجالية لا تخلو من حسّ بالمسؤولية الجماعية، حين عمل رئيسا الجماعتين على تسخير شاحنات صهريجية لتزويد الدواوير بالماء، وإن بشكل حدّ أدنى، في محاولة لرفع جزء من المعاناة اليومية عن ساكنة تتنقل عشرات الكيلومترات من أجل دلو ماء.
قد تكون هذه المبادرات بسيطة من حيث الإمكانيات، لكنها عظيمة من حيث الدلالة: حين يتحرك المسؤول بناء على وعي وظيفي وانتماء مجتمعي، يصبح الفعل السياسي خادماً للمواطن لا مستعلياً عليه، وتتحول الجماعة الترابية من مجال للتسيير البيروقراطي إلى حقل للتفاعل العمومي والتضامن في أوقات الأزمات. وهذه هي القيمة الحقيقية لرئاسة جماعة محلية: أن تكون حاضراً وقت الحاجة، لا أن تتوارى خلف التصريحات الجوفاء.
في المقابل، يثير موقف رئيس جماعة رأس العين كثيراً من الغضب والتساؤلات، ليس فقط لأنه لم يبادر بأي إجراء ملموس، بل لأنه اكتفى بتصريح بئيس لا يرقى حتى لمستوى الحد الأدنى من التواصل السياسي. وكأنّ الأمر لا يعنيه، أو كأنّ الماء لا يدخل ضمن اختصاصاته. هذه اللامبالاة ليست سوى وجه آخر من أوجه الإفلاس السياسي المحلي، حيث يغيب الإحساس بالواجب، وتُختزل السياسة في مظاهرها الاحتفالية الفارغة، وتُترك الساكنة لمصيرها.
لكن كما في كل الأزمات، يولد من رحم المعاناة وعي جديد ومبادرات أهلية تُعيد الاعتبار للمجتمع الحي. فقد بادر مجموعة من شباب مركز رأس العين، وعلى رأسهم حميد، صاحب مقهى بمركز رأس العين إلى تنظيم مبادرة مدنية لتأمين شاحنات صهريجية تنقل الماء إلى السكان، في غياب تام لأي دعم رسمي. هذا الفعل البسيط، النابع من حسّ إنساني خالص، يعيد الثقة في القوة الرمزية للمجتمع المحلي، ويُثبت مرة أخرى أن المواطن، حين يستيقظ، يستطيع أن يعوّض غياب الدولة.
إن حميد وأمثاله لا يحملون صفات رسمية، ولا يتوفرون على اعتمادات مالية، ولا يملكون سلطة القرار، لكنهم يمتلكون ما هو أندر من ذلك: ضمير حي، ووعي جماعي، وكرامة تأبى الصمت. هم نموذج للمواطن-الفاعل، الذي يتجاوز منطق الانتظار السلبي، ويخلق الفعل الاجتماعي من داخل الهامش، ويعيد بناء السياسة من تحت، لا من فوق.
إن ما يجري اليوم في قيادة رأس العين ليس فقط مأساة مائية، بل درس سياسي بليغ، يجب أن يُقرأ بلغة الاجتماع السياسي لا بلغة البلاغة الفارغة. فحين تغيب الدولة، يصبح الفعل الجمعي بديلاً، وحين تفشل الجماعة، ينبثق من الناس من ينهض بها. والمطلوب اليوم ليس فقط صهاريج إسعافية، بل مساءلة بنيوية لمنظومة التسيير المحلي، ووضع حد لعقليات التقاعس التي تُحول المواطن إلى كائن هشّ أمام أبسط مقومات الحياة.
وإلى أن تتحرك المصالح الإقليمية والجهوية والمركزية، سيظل سكان أولاد اشبانة وواد النعناع ورأس العين يصارعون العطش، لا فقط بأجسادهم، بل بكرامتهم. وسيظل حميد وأقرانه، برغم بساطتهم، هم من يمنحوننا جرعة الأمل الوحيدة في زمن الجفاف الأخلاقي والمؤسساتي.