في يوليوز 2025، صادق مجلس النواب على مشروع قانون 26.25 المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، وهو نص تشريعي أعاد إلى الواجهة جدلًا قانونيًا وأخلاقيًا حول مدى احترام الدولة المغربية لحرية الصحافة والتعبير، كما أُقرت في الدستور المغربي وفي المعاهدات الدولية التي التزمت بها المملكة، من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية إلى إعلان ويندهوك وقرارات مجلس حقوق الإنسان.
في ظاهر الأمر، يقدّم المشروع نفسه كخطوة نحو إعادة هيكلة هيئة مهنية يفترض أن تكون مستقلة، لكنه في العمق يكرّس منطقًا مضادًا للاستقلالية، من خلال إقحام السلطة التنفيذية في عملية التعيين، ومنح المجلس صلاحيات زجرية تجعل منه أشبه بجهاز رقابة منه بهيئة للتنظيم الذاتي. هذه الملامح بدأت تتضح منذ اختيار أعضاء المجلس بمزيج من الانتخاب والتعيين، حيث يتم انتخاب ممثلي الصحافيين بينما يُنتدب الناشرون بناءً على معايير مالية كرقم المعاملات وعدد العاملين. وهو ما فتح المجال أمام اتهامات بتفصيل المجلس على مقاس المؤسسات الإعلامية الكبرى وإقصاء الأصوات المستقلة والهامشية، في ضرب صريح لروح التعددية التي يكرّسها الفصل 28 من الدستور المغربي.
هذا الفصل، الذي يعتبر من صلب الحريات، لا يكتفي بضمان حرية الصحافة بل يشجّع صراحة على تنظيمها بشكل مستقل وعلى أسس ديمقراطية. لكن المشروع الحالي يبدو أقرب إلى إعادة إنتاج منطق الهيمنة تحت غطاء التنظيم. فالاستقلالية، كما يعرفها المشتغلون بالمجال، لا تتحقق بمجرد حذف عقوبة توقيف الصحف، بل في غياب الآليات القانونية التي قد تُستخدم مستقبلاً لتكميم الأفواه. فحتى بعد تعديل النص وحذف عقوبة الإيقاف، تم استبدالها بغرامات مالية باهظة تهدد بوأد الصحف المستقلة ماليًا، دون أن يكون هناك وضوح كاف بشأن آليات الطعن في هذه العقوبات، ما يضع المشروع في مواجهة مع الفصول 25 و118 و120 من الدستور، التي تحمي حرية التعبير وتضمن المحاكمة العادلة.
أما الفصل 12 من الدستور، والذي يكرّس الحق في تأسيس التنظيمات المهنية وإدارتها ديمقراطيًا، فقد تم انتهاكه بشكل فجّ عندما تدخلت الحكومة لحل المجلس السابق، وإنشاء لجنة مؤقتة عبر مرسوم دون سند قضائي. هذا الانحراف عن المبدأ الديمقراطي تجلّى من جديد في المشروع، من خلال الإبقاء على نفس منطق الانتداب والتعيين، وتكريس الحضور الرمزي للسلطة التنفيذية ضمن تركيبة المجلس، ما يُفرغ مفهوم التنظيم الذاتي من معناه، ويفتح الباب واسعًا أمام التوظيف السياسي لمؤسسة من المفترض أن تكون حصنًا للحرية.
على المستوى الدولي، يتعارض المشروع مع المادتين 19 و22 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. الأولى تحمي حرية التعبير، بينما الثانية تكفل حق تأسيس الجمعيات والانضمام إليها بحرية. تدخل الدولة في بنية المجلس وتحديد معاييره وشروط العضوية، يشكل مساسًا مباشرًا بهذه الحقوق، خاصة عندما يُعطى المجلس صلاحية فرض عقوبات ثقيلة باسم “المخالفات المهنية الجسيمة”، دون تحديد دقيق أو ضمانة قضائية مستقلة. ما نراه هو هيئة تنظيمية مشوبة بالسلطة التنفيذية تُمنح سلاح العقوبة في يدها، دون التزامات صارمة بالتناسب والضرورة كما تفرضه المعايير الدولية.
وفي حين تعترف بعض التجارب المقارنة، مثل النموذج الفرنسي (CDJM) والبريطاني (IPSO)، بضرورة وجود آليات لتقويم الأداء الإعلامي، فإنها تقوم على قواعد مختلفة كليًا: استقلالية كاملة عن الدولة، تمثيلية متوازنة، سلطات معنوية وتأديبية خفيفة، وتفضيل الميثاق الأخلاقي على العقاب الزجري. ففي فرنسا، تأسس المجلس بمبادرة من المهنيين أنفسهم، لا بقانون مفروض من الدولة، ولا يضم أي ممثل للحكومة. وفي بريطانيا، لا توجد هيئة إلزامية واحدة بل منظومة تطوعية تحترم تعددية الفاعلين، فيما لا يُشترط وجود بطاقة مهنية لممارسة الصحافة. النموذج المغربي، بالمقابل، يُنشأ بقانون رسمي، بتركيبة غير متكافئة، وبسلطات تأديبية واسعة تشمل سحب البطائق وفرض غرامات، مما يجعله أقرب إلى هيئة ضبط حكومية منه إلى هيئة تنظيم ذاتي.
هذه الفجوة بين الشعارات والواقع أثارت انتقادات من داخل الجسم الصحفي ومن منظمات حقوقية اعتبرت أن المشروع يجهز على تجربة التنظيم الذاتي التي بدأت عام 2018، ويحوّل المجلس إلى أداة لإخضاع الإعلام بدل تطويره. فإعلان ويندهوك الذي يُعد مرجعية دولية في المجال، أكد أن استقلال الصحافة لا يتحقق إلا بخروجها من دائرة التأثير الحكومي والسياسي والاقتصادي. والمشروع المغربي، في تركيبته الحالية، لا ينأى بنفسه عن هذه التأثيرات، بل يشرعنها.
أما قرارات مجلس حقوق الإنسان الأممي، التي تُلزم الدول بتوفير بيئة آمنة لحرية التعبير، فإنها تحذّر من مثل هذه المشاريع التي تُغلف القمع بالشرعية القانونية. فغياب نص واضح في المشروع يضمن حق الطعن القضائي، ووجود ممثل حكومي داخل المجلس، وتفضيل المؤسسات الإعلامية الكبرى، كلها مؤشرات تنذر بتحوّل المجلس إلى أداة رقابة بواجهة مهنية.
أمام كل ذلك، تبقى مصداقية المشروع رهينة بقدرته على التماهي مع روحية الدستور والالتزامات الدولية، لا الاكتفاء بالشكل القانوني. وإذا كانت الدولة تسعى فعلًا إلى النهوض بحرية الصحافة، فالأجدر بها إعادة الصلاحية الكاملة إلى المهنيين، والقطع مع منطق الهيمنة والتعيين، وترسيخ استقلالية حقيقية للمجلس، تُمكّن الصحافيين من محاسبة أنفسهم بأنفسهم، بعيدًا عن رقابة مقنّعة، وإلا فإن التنظيم سيتحول إلى أداة ضبط… لا إلى آلية حرية.