برقية التعزية التي بعث بها الملك محمد السادس إلى أسرة الراحل الشيخ جمال الدين القادري بودشيش ليست مجرد نص رثائي يفيض بالمشاعر، بل هي من منظور البنية الرمزية للخطاب نص محمل بالمعاني السياسية والروحية التي تشتغل في عمق الحقل الديني المغربي، وتأتي هذه البرقية في لحظة انتقال حساسة لمشيخة الزاوية القادرية البودشيشية حيث يتصاعد التنافس بين ابني الشيخ الراحل منير ومعاذ، وكل واحد منهما يوظف مريديه وفقراء الزاوية لإرسال الإشارات والدلالات التي توحي بأنه الشيخ المقبل وأن قبس السر قد أصاب منه حظه، وهذه الوضعية تعيدنا إلى مقولة ماكس فيبر عن الشرعية الكاريزمية التي تتعرض للاختبار عند رحيل المؤسس أو الزعيم، إذ يصبح الانتقال لحظة بحث عن من يستطيع تجسيد الإرث الرمزي وتحويله إلى سلطة معترف بها.
فاختيار العبارات الملكية التي وردت في برقية التعزية مثل ثوابت الأمة والإخلاص الدائم للبيعة الوثقى والتعلق المتين بأهداب العرش العلوي المجيد، لا يمكن فهمه كزخرفة بلاغية بل كأدوات لغوية لإعادة ترسيم حدود الشرعية الروحية وضبط مسارها ضمن الإطار السياسي العام، وهنا يلتقي المعنى مع ما ذهب إليه بيير بورديو حين اعتبر أن اللغة الرسمية ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي فعل سلطوي يعيد إنتاج البنية الاجتماعية، فالبرقية الملكية بهذا المعنى تعمل على تثبيت علاقة التبعية الرمزية بين الزاوية والعرش، بحيث تصبح الخلافة الروحية مرتبطة عضويا بالولاء السياسي.
والإشادة بما كان عليه الفقيد من خدمة الدين الإسلامي الحنيف وترسيخ القيم الروحية السنية تحمل في العمق وظيفة معيارية، حيث إنها تحدد مواصفات الشيخ الشرعي الذي يمكن أن يحظى بالاعتراف ليس فقط من المريدين بل من الحقل الديني الرسمي، وهذا يتناغم مع رؤية إميل دوركهايم الذي رأى أن الرموز الجماعية تعمل على توحيد الجماعة عبر تكريس قيم مشتركة، بحيث تصبح أي قيادة جديدة ملزمة بتمثل هذه القيم إذا أرادت الحفاظ على التماسك الداخلي.
وفي هذه اللحظة الانتقالية يكون خطر الانقسام قائما لأن الشرعية لم تحسم بعد بشكل نهائي لصالح أي طرف، لذلك تبدو البرقية كفعل سياسي ناعم يتوخى منع الصراع من الانفجار عبر تقديم إطار رمزي جامع يعلو على التنافس، وهذه الوظيفة الوقائية تذكر بما قاله أنطونيو غرامشي عن الهيمنة، أي القدرة على قيادة المجتمع ليس فقط بالقوة بل عبر بناء توافق رمزي وثقافي يحول دون تفكك البنية الاجتماعية.
فالملك وهو يستحضر خصال الفقيد في الوسطية والاعتدال وتهذيب النفوس، لا يخاطب فقط مشاعر الحزن بل يبعث برسالة مزدوجة، فالأولى وجدانية تطمئن المريدين وتربطهم بسلسلة النسب الروحي، والثانية سياسية رمزية تبقي مسار الخلافة منفتحا لكن مضبوطا ضمن ثوابت الأمة وولائها للعرش، وفي هذه الثنائية يتجلى ما يسميه كليفورد غيرتز بـالدراما الرمزية، حيث يتقاطع المقدس والسياسي في مشهد واحد يوحد الجماعة ويعيد إنتاج السلطة في آن.
وهكذا تتحول البرقية إلى نص متعدد الطبقات، فهي عزاء شخصي وإعلان عن استمرار الشرعية الروحية وضبط لموازين القوة داخل الزاوية، بحيث يوجه التنافس بين منير ومعاذ نحو مسار لا يهدد وحدة البيت البودشيشي، ويظل مندمجا في حضن الشرعية العليا التي يجسدها العرش العلوي، وبهذا فإن برقية التعزية الملكية تكون وثيقة تشتغل في منطقة التماس بين الذاكرة والسلطة، وبين العاطفة والسياسة وتظهر كيف يمكن للكلمات حين تصدر من موقع السيادة أن تكون أداة لتشكيل المستقبل بقدر ما هي مرثية للماضي.