الغاية التشريعية والآثار العملية لتغيير عبارة «يوثق» إلى «يعتد» في النص الجديد للمادة 290 من قانون المسطرة الجنائية المغربي.

ساعة واحدة agoLast Update :
الغاية التشريعية والآثار العملية لتغيير عبارة «يوثق» إلى «يعتد» في النص الجديد للمادة 290 من قانون المسطرة الجنائية المغربي.

 

الدكتور: عبدالرحيم موهوب.

حين تتغير كلمة في نص قانوني فإننا لا نكون أمام مجرد تعديل لغوي، بل أمام إعادة صياغة لعلاقة القوة بين الدولة والمجتمع، فالمحضر الذي كان يوثق بمضمونه كان يحمل في داخله سلطة مطلقة أشبه بمرآة للهيمنة المؤسسية، حيث يصبح ما يحرره الضابط أقرب إلى حقيقة نهائية لا تقبل المراجعة إلا في نطاق ضيق، فقد كان الأمر أشبه بما وصفه ميشيل فوكو حين تحدث عن أن السلطة لا تمارس فقط بالعنف المباشر بل عبر إنتاج خطاب يُعتبر هو الحقيقة ذاتها، ففي تلك اللحظة كان المحضر وثيقة لا تُناقش بل تُفرض باعتبارها تجسيدا لصوت الدولة وهيمنتها.

لكن حين تحوّل النص إلى عبارة يعتد فقد تغيرت بنية السلطة الرمزية، ولم يعد المحضر يُقدَّم كحقيقة متعالية بل كعنصر من عناصر الإثبات يخضع للنقاش، ويُعرض على محك النقد والموازنة، وهنا تنكشف إرادة المشرع في فتح الباب أمام تعدد السرديات داخل المحاكمة حيث الحقيقة لم تعد معطى جاهزا بل صيرورة تتشكل عبر الجدل، وكما قال هابرماس فإن شرعية الحقيقة تتولد من قوة الحجة لا من سلطة المتكلم، وهو ما يتجسد في هذا التحول، حيث أن المحضر لم يعد يحوز قوة الموثوق بل وزن المعتد به الذي يقرره القاضي ضمن سياق أوسع من الأدلة والقرائن.

وهذا التغيير يعكس انتقالا من منطق يقيني إلى منطق تداولي، فالمحكمة لم تعد ملزمة بقبول خطاب السلطة كما هو بل أصبحت ملزمة بتعليل اختياراتها، وهو ما يفتح أفقا أوسع أمام الدفاع لممارسة حقه في منازعة الخطاب الرسمي، والمتهم الذي كان يجد نفسه محاصرا بنص موثوق بات قادرا على تفكيكه واستدعاء خبرات ووسائل متعددة لإبراز ضعفه، ذلك أن الحقيقة هنا لم تعد مفروضة من الأعلى بل أصبحت مجالا للتفاوض والتفاعل، وهو ما ينسجم مع منطق المحاكمة العادلة التي تقوم على المساواة بين الأطراف.

وفي هذا السياق تتحول الأدوار جميعها، فالضابطة القضائية مطالبة بمزيد من الدقة والشفافية حتى تحافظ على قوة ما تكتبه، والنيابة العامة لم يعد يكفيها الاعتماد على المحاضر وحدها بل عليها أن تدعمها بأدلة أخرى، والقاضي الجنائي صار مسؤولا عن تعليل وزنه للأدلة بشكل أوضح، والدفاع اكتسب مجالا أوسع للطعن والتفنيد، ويمكن القول أن كلمة يعتد لا تلغي السلطة الرمزية للمحاضر لكنها تضعها في موقع أقل تعاليا وأكثر خضوعا للمساءلة، وهو ما يجعل المحاكمة فضاء لتعدد الأصوات بدل أن تكون مجرد مصادقة على خطاب رسمي.

و عليه فإن الفرق بين يوثق ويعتد هو في جوهره إعادة رسم للعلاقة بين السلطة والحقيقة، فالأولى كانت تعبيرا عن ثقة عمياء في الجهاز الرسمي، والثانية إعلان عن أن الحقيقة تُبنى عبر الجدل والنقاش لا عبر الاحتكار المؤسسي، وهنا يلتقي القانون بالفلسفة كما قال نيتشه بأنه ليست هناك حقائق بل تأويلات، وكما أضاف بول ريكور فإن الحقيقة القضائية لا توجد في النصوص وحدها بل في المسار الذي يمر عبر الصراع بين الروايات، وبهذا التغيير يكون المشرع قد فتح الباب أمام عدالة أكثر إنصاتا لأصوات متعددة وعدالة لا تُفهم فقط كسلطة تعاقب بل كفضاء لبناء حقيقة مشتركة بين الدولة والفرد.

اترك رد

Breaking News