الدكتور عبدالرحيم موهوب.
يقف المتهم في فضاء الاستجواب
محاطاً بسلطة متعددة الوجوه، حيث لا يكون في مواجهة الضابطة أو النيابة أو القاضي فحسب، بل أمام ثقل تاريخي من الأعراف والأدوار الاجتماعية التي تعوّد عليها منذ طفولته. في لحظة المواجهة هذه، يتجلى الخجل كقناع يظنه المتهم وسيلة لحماية الذات أو لاجتلاب التعاطف، لكنه في الواقع يتحول إلى فخ نفسي واجتماعي يعطل حقه في الدفاع. إن الحياء في هذا السياق لا يعمل كقيمة أخلاقية، بل كآلية لإعادة إنتاج الضعف، لأن السلطة القضائية لا تشتغل بالعاطفة بل بالبينة والحجة.
يبدو الخجل هنا نتاجاً لبنية أعمق: فالوقائع التي تحدث عنها دوركايم باعتبارها قوى مفروضة من الخارج، هي ذاتها التي تجعل المتهم أسير صورة نمطية عن العلاقة مع السلطة، صورة تربط الطاعة بالصواب والخضوع بالسلامة. وما إن يدخل الفرد قاعة المحكمة حتى يجد نفسه مضطراً إلى أداء دورٍ تمليه هذه البنية، فلا يتكلم حين يجب أن يتكلم، ولا يحتج حين يُسلب حقه. وهكذا يتحول صمته إلى لغة سلبية تقرأها المؤسسة كعجز، لا كفضيلة.
من الداخل، يعيش المتهم تناقضاً معرفياً حاداً. فهو يعلم أن الدفاع عن النفس ضرورة، لكنه في الوقت نفسه يخشى أن يخطئ أو أن يُساء تأويل كلامه، فيختار الصمت. نظرية التنافر توضح أن الأفراد عندما يواجهون هذا الصراع الداخلي يلجأون إلى تبرير يخفف التوتر، وفي هذه الحالة يكون التبرير أن «الصمت حكمة» أو أن «الحياء يجلب الرحمة». لكن هذا التبرير يُضاعف الخسارة، لأن الخوف من مواجهة الذات والآخر يجعل من المتهم طرفاً سلبياً في قضية تحتاج إلى فعل إيجابي.
في المسرح القضائي، تتجسد الأفكار التي صاغها غوفمان عن إدارة الانطباع. فالمحاكمة ليست مجرد تحقيق في وقائع، بل عرض علني تتشكل فيه صورة كل طرف أمام الآخرين. وإذا لم يقدّم المتهم روايته بوضوح، فإن الآخرين سيبنون روايته عنه وفق مصالحهم، وبذلك يصبح غائباً عن صورته، موضوعاً لرواية لا يملكها.
الهوية الجماعية تلعب دوراً إضافياً في تكريس هذا السلوك. فالمجتمع الذي يمجد الحياء والخضوع يزرع في الفرد قناعة بأن الاعتراض عيب وأن المواجهة تهدد الانتماء. وهكذا يصبح الخوف ليس فقط من القاضي، بل من أن يخسر المتهم صورته المقبولة في عين الجماعة التي ينتمي إليها. وهذا ما يجعل صمته نوعاً من الولاء الاجتماعي بقدر ما هو ضعف فردي.
الفلسفة تعمّق هذا التحليل حين تذكّر بأن الحرية الحقيقية لا تتحقق إلا بالمواجهة. يقول روسو: «الإنسان يولد حراً، ولكنه في كل مكان يرسف في القيود»، وهذه القيود ليست خارجية فحسب بل داخلية أيضاً، فهي خوف وتردد وصمت. أما نيتشه فقد ذهب أبعد حين قال: «من يخشى مواجهة الحقيقة، يعيش عبداً للظلال»، والمتهم الذي يلوذ بالصمت يظل أسيراً لظلاله، خاسراً القدرة على امتلاك قصته.
لهذا يصبح من اللازم إعادة تعريف العلاقة بين الفرد والسلطة في فضاء المحاكمة. ليس المطلوب شجاعة انفعالية أو اندفاعاً غير محسوب، بل قدرة واعية على إدارة الموقف، على صياغة الرواية بوضوح، وعلى المطالبة بالحقوق بصوتٍ مسموع. فالصمت في هذا السياق ليس أداة للحماية، بل طريق لفقدان الحق، بينما الشجاعة العقلانية وحدها تمنح المحاكمة معناها الإنساني والعدالة معناها الحقيقي.