محكمة النقض تُرسّخ مبدأ مسؤولية الدولة عن تعويض ضحايا أعمال الشغب في إطار التضامن الوطني

3 ساعات agoLast Update :
محكمة النقض تُرسّخ مبدأ مسؤولية الدولة عن تعويض ضحايا أعمال الشغب في إطار التضامن الوطني

 

بقلم الدكتور عبدالرحيم موهوب.

جاء في قرار لمحكمة النقض، عدد 04 الصادر بتاريخ 08 يناير 2015 في الملف الإداري عدد 2013/2/4/2166، أن الأضرار الناجمة عن أعمال الشغب والإحراق والنهب التي ترتكبها جماعات تتحرك وفق قناعات وخلفيات مشتركة تنمحي معها شخصية كل فرد داخلها، وتتحول إلى قوة جماعية مرفوقة بمظاهر العنف، تهدف بالأساس إلى المساس باستقرار الدولة وزرع القلاقل داخلها، تُلزم الدولة بالتعويض في إطار المسؤولية بدون خطأ، أي على أساس التضامن الوطني، حتى ولو لم يثبت أي تقصير من جانب مرفق الأمن. ولم يقف القرار عند هذا الحد، بل أكد أيضاً أن الدولة تحتفظ بحقها في الرجوع على المتسببين المباشرين في الأضرار، أي أولئك الذين قاموا بأفعال التخريب والإحراق والنهب، وبذلك رسم معالم توازن دقيق بين حماية حقوق الأفراد من جهة وضمان عدم إفلات المتسببين من الجزاء من جهة أخرى.

هذا التوجه يجد سنده في فلسفة القانون الإداري الحديث التي تجاوزت نظرية الخطأ كأساس وحيد للمسؤولية لتتبنى مبدأ المخاطر أو المسؤولية بدون خطأ، بحيث يكفي أن يتعرض الأفراد لضرر استثنائي أو غير عادي ناجم عن نشاط أو أحداث مرتبطة بالنظام العام حتى تتحمل الدولة عبء التعويض، باعتبارها الممثل الأعلى للمجتمع. وفي الفقه المقارن يُعتبر مجلس الدولة الفرنسي رائداً في تكريس هذه النظرية من خلال قراراته الشهيرة مثل قرار “Cames” سنة 1895 الذي وضع أساس التعويض عن الأضرار المهنية بدون خطأ، وقرار “Regnault-Desroziers” سنة 1919 الذي رسّخ المسؤولية بدون خطأ عن الأضرار الناتجة عن المواد المتفجرة، وقرار “Couitéas” سنة 1923 الذي أكد حق الفرد في التعويض عن الضرر الاستثنائي الناتج عن المحافظة على النظام العام. وعلى نفس النهج، يوازي قرار محكمة النقض المغربية بين متطلبات استقرار الدولة وأمنها من جهة وحق المواطنين في الحماية من الأضرار الجماعية من جهة أخرى، ليؤسس لاجتهاد وطني متماسك يضع المغرب ضمن الدول التي تعترف بمسؤولية الدولة التضامنية عن الأضرار الاستثنائية بصرف النظر عن وجود خطأ مرفقي.

القضية التي كانت موضوع القرار تعود إلى طبيب تضررت عيادته بفعل أعمال تخريب وإحراق أثناء احتجاجات، فحصل ابتدائياً واستئنافياً على تعويض قدره 270.000 درهم (27 مليون سنتيم)، رغم منازعة الدولة التي أصرت على الطعن بالنقض. إلا أن محكمة النقض حسمت الجدل وأكدت مبدأها المستقر الذي يمنح المواطن المتضرر حماية قضائية واسعة. ويعد هذا الاجتهاد خطوة متقدمة في تكريس العدالة الاجتماعية، إذ يخرج المتضررين من دائرة الضحية المنسي إلى دائرة المواطن المستفيد من حماية جماعية، ويؤكد أن التعايش داخل الدولة لا يمكن أن يقوم دون آلية تعويضية عن الأضرار التي تتجاوز قدرة الفرد على دفعها أو تفاديها.

قرار محكمة النقض المغربية لسنة 2015 ليس مجرد حكم في نازلة محددة، بل هو تأصيل لنظرية قانونية تُرسّخ مسؤولية الدولة بدون خطأ على أساس التضامن الوطني. وهو في الآن ذاته إدماج للاجتهاد المغربي في الفضاء المقارن، حيث تلتقي مبادئ العدالة الإدارية المغربية مع أعرق اجتهادات مجلس الدولة الفرنسي. وبذلك يفتح القرار الباب أمام متضررين آخرين للجوء إلى القضاء الإداري، ويؤكد أن الدولة في دولة الحق والقانون ليست مجرد سلطة ضابطة، بل كيان ضامن لحقوق الأفراد، حتى عندما يكون مصدر الضرر أحداثاً خارجة عن سيطرتها المباشرة.

اترك رد

Breaking News