البطلان الإجرائي الجوهري في ضوء التعديل الجديد للمادة 751 من قانون المسطرة الجنائية المغربي.

3 ساعات agoLast Update :
البطلان الإجرائي الجوهري في ضوء التعديل الجديد للمادة 751 من قانون المسطرة الجنائية المغربي.
البطلان الإجرائي الجوهري في ضوء التعديل الجديد للمادة 751 من قانون المسطرة الجنائية المغربي.

 

الدكتور عبدالرحيم موهوب.

يُعتبر البطلان الإجرائي أحد أهم الجزاءات التي يرتبها القانون على مخالفة القواعد المسطرية، وهو في ذات الوقت ضمانة أساسية لاحترام الشرعية وحماية حقوق المتقاضين. فالمسطرة الجنائية لم توضع عبثاً، وإنما لضبط ممارسة الدولة لسلطتها في البحث عن الجرائم وتعقب مرتكبيها ومتابعتهم ومحاكمتهم، في إطار يوازن بين حماية النظام العام وضمان الحقوق الفردية. ومن ثم فإن أي إخلال بقواعدها الأساسية من شأنه أن يهدم شرعية الإجراء برمته.

لقد نصت المادة 751 من قانون المسطرة الجنائية في صيغتها الحالية على أن “كل إجراء يأمر به هذا القانون ولم يثبت إنجازه على الوجه القانوني يعد كأنه لم ينجز”، بينما جاء التعديل الجديد، الذي سيدخل حيز التنفيذ بتاريخ 8 دجنبر 2025، أكثر وضوحاً وتشديداً، حيث نص على أن “كل إجراء يأمر به هذا القانون ولم يثبت إنجازه على الوجه القانوني يعد كأن لم ينجز ولا يعتد به”، مع إلزام الجهة القضائية المختصة بترتيب الجزاء. ويبدو للوهلة الأولى أن الفرق بين الصيغتين بسيط، لكنه في الحقيقة يعكس تحولا عميقاً في فلسفة المشرع بخصوص الآثار المترتبة عن خرق القواعد الإجرائية.

ففي ظل النص القديم، كان بعض الفقه والاجتهاد القضائي يتردد في الحسم في القيمة القانونية للإجراء الباطل، مكتفياً باعتباره “كأن لم ينجز”، وهو ما كان يفتح الباب أمام تأويلات تسمح باستحضاره في تكوين قناعة القاضي، أو اعتباره مجرد إجراء ناقص الأثر دون أن يؤدي ذلك إلى استبعاده كلياً. غير أن الصياغة الجديدة جاءت حاسمة في هذا الإطار، بإضافة عبارة “ولا يعتد به”، لتقرر صراحة أن الإجراء المخالف للقانون لا يمكن أن يرتب أي أثر قانوني، وأنه منعدم من حيث القيمة القانونية، فلا يجوز الاحتجاج به أو الاستناد إليه بأي وجه.

ويجد هذا التوجه أساسه في التمييز التقليدي بين نوعين من البطلان: البطلان الجوهري، والبطلان النسبي. فالبطلان النسبي يرتبط بخرق شكليات ثانوية لا تمس جوهر الضمانات، ويمكن للمعني بالأمر التنازل عنه أو تصحيحه. أما البطلان الجوهري فيرتبط بخرق قواعد أساسية تمس بحقوق الدفاع أو بضمانات المحاكمة العادلة أو بالنظام العام الإجرائي، وهو بطلان لا يقبل التصحيح أو التنازل، ويتعين على القضاء إعماله تلقائياً. ومن خلال صياغته الجديدة للمادة 751، يتضح أن المشرع المغربي يكرس مفهوم البطلان الجوهري، باعتبار أن الإجراء غير المنجز على الوجه القانوني يعد عديم الأثر ويترتب عليه البطلان المطلق.

وتدعيم هذا التوجه ينعكس كذلك في الفقرة المستحدثة التي تلزم الجهة القضائية بترتيب الجزاء، إذ لم يترك المشرع مجالاً لاجتهاد يسمح بتجاوز البطلان أو تجاهله، بل ألزم القضاء صراحة باستبعاد الإجراء المخالف. وهذا التوجه يجد سنده في اجتهادات قضائية سابقة لمحكمة النقض المغربية، التي أكدت في أكثر من قرار أن الإخلال بضمانات الدفاع أو بعدم احترام الشكليات الجوهرية يترتب عليه البطلان، لأنه يمس بشرعية المحاكمة.

كما أن هذا التوجه يجد دعماً في المبادئ العامة المقارنة. ففي التشريع الفرنسي مثلاً، ينص الفصل 171 من قانون المسطرة الجنائية الفرنسي على أن “كل إجراء يترتب عن خرق القواعد الجوهرية للمسطرة يعد باطلاً”، ويُعتبر باطلاً كل إجراء يشوب التحقيق أو المحاكمة إذا أخل بحقوق الدفاع. وفي القانون المصري، نصت المادة 331 من قانون الإجراءات الجنائية على بطلان أي إجراء يتم بالمخالفة لنصوص جوهرية. وهو ما يؤكد أن المشرع المغربي قد التحق بالاتجاهات الحديثة التي تُشدد على ضرورة تكريس البطلان الإجرائي الجوهري كآلية لحماية الشرعية.

وعلى المستوى الدستوري، فإن هذا التعديل يجد سنده في الفصل 23 من الدستور المغربي الذي يكرس ضمانات المحاكمة العادلة، والفصل 117 الذي يلزم القاضي بحماية حقوق الأشخاص وحرياتهم. فالمسطرة التي لا تحترم هذه الضمانات تعد منعدمة الأثر، وإعمال البطلان هنا ليس مجرد جزاء شكلي، بل هو وسيلة لتفعيل مقتضيات الدستور على أرض الواقع.

إن إضافة عبارة “ولا يعتد به” تنطوي على أثر عملي مهم يتمثل في استبعاد أي إمكانية لاستعمال الإجراء الباطل ضمن تكوين اقتناع القاضي، أو لترتيب أي أثر إجرائي أو موضوعي عليه. وهذا يحصن حقوق الدفاع من أي التفاف، ويمنع القضاء من اعتماد إجراءات مشوبة بعيوب قانونية. كما أن إلزام القضاء بترتيب الجزاء يقوي الرقابة على مشروعية المسطرة، ويجعل من احترام الإجراءات أساساً لبناء الشرعية القضائية.

وعليه، فإن التعديل الجديد للمادة 751 من قانون المسطرة الجنائية لا يمثل مجرد إضافة لغوية، بل يعكس نقلة نوعية في فلسفة المشرع تجاه البطلان الإجرائي. فهو تكريس صريح لمفهوم البطلان الجوهري، وتأكيد على أن الإجراء المخالف للقانون لا ينتج أي أثر، والتزام واضح بتمكين القضاء من حماية المحاكمة العادلة وضمانات الدفاع. وهو بذلك يندرج ضمن مسار بناء عدالة جنائية تحترم الشرعية، وتعزز ثقة المتقاضين في نزاهة وشفافية المسطرة، وتنسجم مع المبادئ الكونية للمحاكمة العادلة.

اترك رد

Breaking News