حين تفقد الأشياء معناها… زمن التمييع العام

3 ساعات agoLast Update :
حين تفقد الأشياء معناها… زمن التمييع العام
حين تفقد الأشياء معناها… زمن التمييع العام

بقلم : ذ.المختاري أيمن

مدير تربوي

يبدو أن عصرنا يعيش مرحلة خطيرة من التمييع الشامل؛ تمييع للأفكار والمبادئ، وللقيم والأشياء، حتى غدت الحدود بين الجِدّ والهزل، بين الأصالة والزيف، بين الجوهر والمظهر، حدودًا باهتة لا تُرى بالعين المجردة.

صرنا نعيش زمنًا تختلط فيه المعاني كما تختلط الألوان في لوحةٍ فقدت ملامحها، فيصبح كل شيء قابلًا لأن يُعرض، لكن قليلًا منه يستحق أن يُحترم.

في السياسة، مثلًا، لم تسلم الأحزاب من هذا التمييع؛ فبعد أن كانت مؤسسات تؤطر المواطنين، وتنشر الوعي، وتدافع عن مبادئ واضحة، صارت في كثير من الأحيان منصات موسمية للخطابة والمناصب. تحوّلت البرامج إلى شعارات، والشعارات إلى صورٍ لامعة على وسائل التواصل، واختُزل العمل السياسي في “المشهد” بدل “المضمون”.

لم يعد الانتماء الحزبي يقوم على الفكر، بل على المصلحة؛ ولا على الاقتناع، بل على القرب من الضوء. وهكذا تم تذويب المعنى الحقيقي للنضال، كما تُذاب قطعة سكر في بحرٍ من الخطابات المكرّرة.

وفي الإعلام، بات المذيع نجمًا أكثر من كونه ناقلًا للمعرفة، والمحتوى أصبح يُقاس بعدد المشاهدات لا بعمق الفكرة. حتى المثقف، الذي كان يُنتظر منه أن يكون ضمير الأمة، صار أحيانًا أسير التصفيق والمناسبات، يخشى قول الحقيقة كي لا يخسر “المتابعين”.

أما في مجالات أخرى، كالتعليم والثقافة، فقد أصاب التمييع جوهرها أيضًا.

نرى حفلات التخرج في بعض الكليات وقد تحوّلت إلى عروض استعراضية أكثر منها محطات علمية، تُدار بيد منظمي الحفلات لا أهل المعرفة، ويغيب فيها الحديث عن البحث والتحصيل ليحلّ محله صخب الموسيقى والكاميرات. إنها صورة مصغرة لما يعيشه العالم من تفريغٍ للمعاني من مضامينها، حتى أصبح الاحتفال يُغني عن الإنجاز، والمظهر يُعوّض عن الجوهر.

إن التمييع لا يصنع إلا أجيالًا هشّة، تعيش على الضوء السريع، وتخاف من الصمت، وتبحث عن الاعتراف لا بالإنجاز بل بالتصفيق.

والمؤسف أن هذه الظاهرة باتت تتسلل بهدوء إلى كل مفصل من مفاصل الحياة: في الفن، في الفكر، في السياسة، وحتى في الدين، حيث تختلط الرسالة بالتسويق، والمضمون بالشكل.

لقد آن الأوان لأن نستعيد المعنى، وأن نعيد للأشياء هيبتها، للأفكار جِدّيتها، وللمبادئ ثباتها. فالأمم لا تنهض بالزينة، بل بالفكرة، ولا تخلّدها الاحتفالات، بل العمل الصادق والمعرفة العميقة.

حين يعود العمق إلى الفكر، والنزاهة إلى السياسة، والجدية إلى التعليم، يمكن حينها أن نقول إننا خرجنا من زمن التمييع، ودخلنا زمن المعنى.

اترك رد

Breaking News