بقلم الدكتور : عبد الرحيم موهوب
من المؤكد أن الحياة خلف القضبان، إذا طالت مدتها وزادت قسوتها، قد تؤدي إلى تغيير شخصية السجناء على نحو تعيق إعادة إدماجهم في المجتمع بعد إطلاق سراحهم. فالشخص الذي حكم عليھ بالعيش لسنوات في مكان لا تتاح لھ فيھ مساحة من الخصوصية، ولا يختار فيھ الجليس ولا المأكل، ولا حتى الوجهة. يشعر أنھ محاط بالمخاطر والشكوك، وقلما يجد من يترفق بھ، أو يربت على كتفھ. ويعيش معزولا عن أهلھ وأصدقائھ. في هذا المناخ لا يجد السجين أمامھ من خيار سوى التغير والتكيف للتعامل مع ظروف الحياة داخل السجن، ولا سيما إن كان يقضي فترة عقوبة طويلة.
فتجربة السجن تغير السجين كليا وتؤذيھ، ولا يسلم من أذاه إلا القليل منھم، فعقوبة السجن وبالأخص إذا كانت طويلة تغير من شخصية السجين إلى أبعد المدى، حيث لن يصبح كما كان في الماضي. فبخلاف الاعتقاد العلمي الذي كان سائدا في الماضي، ومؤداھ أن شخصية الانسان لا تتغير إلى حد كبير في فترة البلوغ، فبالعكس فعادات التفكير وكذلك السلوك والعواطف، بالرغم من بعض الثبات النسبي، تتغير بشكل كبير استجابة لمؤثرات خارجية، تماشيا مع الأدوار المختلفة التي يتم اتخذها على مدار الحياة. حيث يصبح الاندماج في المجتمع بعد المكوث في السجن لفترة طويلة أمرا عسيرا، ولهذا فإن الحياة في بيئة السجن التي تحكمها ضوابط وقواعد مشددة ولكنها مليئة بالمخاطر الاجتماعية، ستؤدي حتما إلى تغيير شخصية السجين كليا.
وهذه التغيرات في شخصية السجين تثير مخاوف جميع المعنيين بسلامة السجناء وإعادة تأهيل مرتكبي الجرائم المفرج عنهم، الذين رأوا أنها بقدر ما كانت تعينهم على التأقلم مع الأوضاع داخل السجن، قد تقف حائلا أمام إعادة إدماجهم في المجتمع بعد إطلاق سراحهم. وهناك بعض السمات الأساسية لبيئة السجن التي من المرجح أن تؤدي إلى تغيير الشخصية، على رأسها، مصادرة حق السجناء في اتخاذ القرارات، وانعدام الخصوصية، والوصم اليومي بالعار، والخوف المتكرر، والتظاهر دائما بالبأس والقوة وجمود المشاعر خوفا من استغلال ضعفھم من الآخرين ، والالتزام اليومي بقواعد وواجبات يومية رتيبة وصارمة فرضت عليهم من الخارج.
فالسجناء يتكيفون تدريجيا مع البيئة خلف القضبان، فيما يسمى بعملية التأقلم مع الحياة داخل السجن اجتماعيا وثقافيا. وهذا يسهم في نشوء متلازمة ما بعد السجن، وهي مجموعة من الأعراض التي تظهر على المفرج عنهم. ذلك أن السجين يكتسب سمات شخصية جديدة تتماشى مع متطلبات البيئة القمعية في المؤسسات السجنية، منها على سبيل المثال، تخوين الآخرين، وصعوبة إقامة علاقات، والتردد في اتخاذ القرارات. حيث يؤدي السجن بالمسجون إلى زيادة الميل إلى الاندفاع في اتخاذ القرارات وضعف القدرة على الانتباه، وعدم القدرة على الثقة بالآخرين، وهو نوع من جنون الارتياب الدائم.
فتجربة السجن تقسي القلب، وتعمق مشاعر الفتور والجفاء حيال الأخرين، فمع الوقت في السجن تزداد المشاعر التي اكتسبها رسوخا، فإذا أصبح قاسي القلب منذ البداية ستزداد قساوة، وفتورا، وانزواء عن الأخرين. وكلما طالت مدة السجن، يتكيف السجين، بأدق معاني الكلمة، مع مقتضيات الحياة في السجن الممتدة لفترة طويلة، ومن ثم يصبح أكثر تبلدا ولامبالاة وأشد انعزالا وتقوقعا، وربما تقل قدرته على الانسجام مع المجتمع بعد الإفراج عنھ. فالميل إلى الاندفاع في اتخاذ القرارات وضعف القدرة على الانتباه تصبح متكرسة في السجين، كما تحدث لھ تغيرات معرفية كالتراجع في عامل يقظة الضمير، وكل ھذا يقع للسجين نتيجة البقاء في بيئة غير مجدبة وعديمة الإمكانات، لا يواجھ فيها تحديات معرفية ويعيش مسلوب الإرادة. فالسجين يصبح بعد الخروج من السجن أقل استعدادا للعيش كمواطن صالح في المجتمع قبل دخولھ إليھ.