إنها ليست مجرد قضية فساد، بل فضيحة مدوية تهز عرش العقار في المغرب، ويقف في قلبها المنعش العقاري أحمد العنابي، الرجل الذي بنى إمبراطوريته المالية على أنقاض القانون، مستغلاً ثغرات الإدارة المغربية ومتواطئاً مع شخصيات نافذة. الحديث هنا ليس عن مجرد تجاوزات قانونية بسيطة، بل عن شبكة منظمة تتقن فن الاحتيال والتزوير، وتتلاعب بمستقبل مئات المواطنين الذين يقطنون في بنايات مشيدة خارج إطار السلامة القانونية، مما يجعل من مجرد تأخير اعتقال هذا الرجل تهديدًا صارخًا لأمن وسلامة المجتمع.
تحقيقات الفرقة الوطنية للشرطة القضائية كشفت عن معطيات صادمة تؤكد أن العنابي لم يكن مجرد رجل أعمال طموح، بل كان العقل المدبر لمافيا العقار في الدار البيضاء، حيث استغل نفوذه وعلاقاته لفرض أمر واقع على مؤسسات الدولة. فقد تمكن، عبر أساليب ملتوية، من الحصول على أحكام قضائية لصالحه، مكبدًا خزينة الدولة خسائر فادحة، أبرزها تعويض مالي ضخم بلغ 46 مليون درهم، تم استخراجه من صندوق الوكالة الحضرية، بعد تقديم وثائق مزورة والتحايل على القضاء.
لكن الأخطر من ذلك، هو كيفية تنفيذ مخططاته، إذ أن العنابي كان يوظف شركاته الخاصة في البناء، مما سمح له بتزوير التصاميم الهندسية للمباني دون رقابة حقيقية، حيث كان يستغل مهندسين ضعفاء النفوس ومسؤولين مرتشين لتمرير تصاميم مخالفة عبر مجلس مدينة الدار البيضاء، ليحصل في النهاية على وثائق رسمية تؤكد مطابقة البنايات للتصاميم المصرح بها، رغم أنها تخالفها تمامًا.
ما يثير الرعب حقًا، هو أن هذه العصابة لم تكتف بتزوير الوثائق، بل كانت تعمل على سرقة وإتلاف الأرشيف الرسمي للإدارات العمومية، لضمان عدم اكتشاف جرائمها مستقبلًا. هذا يعني ببساطة أن أي شخص يحاول تتبع المخالفات التي ارتكبها العنابي، سيجد نفسه أمام طريق مسدود، لأن الأدلة اختفت بفعل فاعل!
وبمساعدة موظفين في مجال التوثيق والمهندسين، كان يتم إيداع هذه التصاميم المزورة في مصلحة المسح الطبوغرافي والمحافظة العقارية، حيث كان العنابي يستخرج بها رسومًا عقارية جديدة، فيتحول تزوير بسيط إلى واقع قانوني يصعب الطعن فيه.
ومن أجل ضمان حماية مستمرة، كان العنابي يشتري صمت المسؤولين بطرق ملتوية، فمنهم من حصل على رشاوى نقدية، ومنهم من مُنح شققًا فاخرة بأسعار صورية. أحد أبرز هذه الفضائح، هي الموظفة التي كانت تعمل بالكتابة الخاصة لمستشار العمدة السابق، والتي تكلفت بتمرير التصاميم المزورة داخل مكتب العمدة دون إثارة الشبهات، فتمت مكافأتها بشقة فاخرة في مشروع العنابي السكني بدار بوعزة، مقابل مبلغ صوري يبلغ 70 مليون سنتيم.
إذا كان المال هو دافع العنابي، فإن ضحاياه هم المواطنون البسطاء الذين يشترون شققًا ومحلات في مشاريع عقارية فاسدة لا تحترم أبسط معايير السلامة. فكم من بناية مخالفة في الدار البيضاء شُيدت بأكثر من عدد الطوابق المسموح بها؟ وكم من مكتب إداري أصبح سكنًا غير قانوني بسبب هذا الجشع؟
أحد الأمثلة الصارخة هو العمارة الواقعة بشارع عبد المومن، المرخص لها بتسعة طوابق، لكنها تحولت إلى 12 طابقًا دون أي دراسة هندسية، مما يشكل خطرًا محدقًا على السكان، خصوصًا مع غياب منافذ التهوية الضرورية التي يحتاجها رجال الإطفاء في حالات الطوارئ.
كل هذه الجرائم موثقة في التحقيقات التي أجرتها الفرقة الوطنية، وتم تصنيفها ضمن جرائم تكوين عصابة إجرامية، التزوير في وثائق رسمية، النصب، وتهديد السلامة العامة، وهي جرائم يعاقب عليها القانون الجنائي المغربي بأقصى العقوبات.
إذن، لماذا لم يُعتقل أحمد العنابي بعد؟ هل هي مسألة وقت، أم أن هناك من يحميه في دواليب السلطة؟ ومتى ستتحرك العدالة لحماية المواطنين من مخططاته الإجرامية؟
إن أي تأخير في القبض عليه، يعني ببساطة استمرار هذه الجرائم، وزيادة الضحايا، وتعريض حياة الناس للخطر. فأحمد العنابي ليس مجرد منعش عقاري، بل هو رأس شبكة فساد خطيرة، تستحق أن تُجتث من جذورها قبل أن يفوت الأوان.