بينما كانت معاول الهدم تجوب شوارع إقليم النواصر، وتسقط واجهات محلات ومقاهٍ استقرت منذ سنوات، ظلت واجهة واحدة صامدة، كأنها تنتمي إلى زمن أو منطق مختلف، مقهى فرنسي يحمل اسم “Paul” في قلب الشارع الرئيسي لبوسكورة لم تقترب منه الجرافات، ولم تطله قرارات الإزالة التي شملت عشرات المحلات المجاورة، أما فضاء راقٍ آخر، يحمل اسم “Olivieri”، ضمن المشروع الفرنسي المثير للجدل في بترومين، فقد وجد بدوره مكاناً محصناً وسط ركام الحملة، وكأن الاستثناء هنا لم يكن صدفة، بل اختياراً.
الشارع الذي لم يعرف رحمة في تنفيذ قرارات الهدم، عرف فجأة حدوداً غير مرئية توقفت عندها الجرافات، وتراجعت عندها القرارات، لتبدأ الأسئلة الكبرى في التناسل بين المواطنين، هل يخضع القانون لمعايير موضوعية تُطبَّق على الجميع، أم أن هناك علامات تجارية تُحصِّن واجهاتها بجنسية معينة، أو اسم تجاري ذائع الصيت؟ وهل صار بوسع الاستثمار الأجنبي أن يتجاوز ضوابط التعمير، بمجرد ما أن يحمل توقيعاً خارجياً فاخراً؟
المفارقة تتعاظم حين نستحضر أن مشروع “بترومين بوسكورة” رُخص له في الأصل في إطار تصنيف STL، أي ضمن خانة الرياضة والسياحة والترفيه، وهو ما يقتضي قانوناً ألا تتجاوز نسبة البناء 10% من مجموع المساحة، لكن الواقع الميداني يرسم صورة مغايرة تماماً، حيث تحوّل المشروع إلى كتلة إسمنتية بلغت نسبة البناء فيه زهاء 80%، وهو ما يشكّل خرقاً صارخاً للضوابط العمرانية التي وُضعت لحماية التوازن المجالي والبيئي.
لكن الذي يثير الريبة أكثر من الخرق نفسه، هو الطريقة التي يُموَّه بها هذا التمدد غير القانوني، إذ أضحى اختيار علامات تجارية عالمية، مثل “Paul” و”Olivieri”، بمثابة غطاء ناعم يُخفي خلفه التوسع غير المشروع، وكأن جاذبية الاسم التجاري تُغني عن الحاجة إلى احترام التصاميم الأصلية والرخص المعمارية، في مشهد يطرح إشكالات جدّية حول أولويات تدبير الشأن المحلي، ومصداقية الجهات المعنية بمراقبة التعمير وتنفيذ القانون.
لقد أظهر هذا الاستثناء الصارخ أن مسطرة الهدم، التي يُفترض أن تكون إجراءً إدارياً محايداً، قد تتحوّل إلى عملية انتقائية تُراعي نوع الزبون أكثر مما تراعي مبدأ العدالة، فالهدم الذي أُنزِل على محلات ومقاهٍ عادية لم يجرؤ على الاقتراب من واجهة أنيقة تحمل شعاراً أجنبياً، وكأن الهوية التجارية باتت جداراً منيعاً أمام تطبيق القانون.
في ظل هذا الوضع، لا مفر من التساؤل، هل ما زالت العمالة جادة فعلاً في تنفيذ القانون على قدم المساواة؟ أم أن الانتقائية صارت سلوكاً غير معلن في تدبير الملفات الحساسة؟ وهل صارت جنسية المقهى أو المطعم سبباً كافياً لتفادي قرار إداري صارم بحجم الهدم؟
حين يُستثنى البعض من القانون بدعوى الجاذبية الاقتصادية، أو الإشعاع التجاري، تُفقد الدولة هيبتها، ويُمسّ جوهر العدالة المجالية، وإذا كان بعض المشاريع الاستثمارية ترى في نفسها فوق القانون، فإن مسؤولية السلطة الترابية أن تضع حداً لهذا الغرور العمراني، وأن تُعيد ترتيب العلاقة بين الرأسمال الخاص والمصلحة العامة، فالأرض، في نهاية المطاف، لا تقرأ أسماء الماركات، لكنها تحتفظ بذاكرة طويلة لتطبيق القانون أو التفريط فيه .