الزاوية البودشيشية والأمن الروحي في زمن التحولات.

19 يونيو 2025Last Update :
الزاوية البودشيشية والأمن الروحي في زمن التحولات.

 

 

في عالم تتسارع فيه وتيرة الحياة بشكل منهك، وتتضاعف فيه الضغوط المادية والنفسية على الأفراد حتى باتت الروح تئن تحت وطأة الاستهلاك والحواس تتخبط في زحام التفاهة، يبرز سؤال جوهري يكاد يكون وجوديا مؤداه وجود الاتزان عند الإنسان في خضم هذا التيه، ولا تأتي الإجابة من صخب المدن أو ضجيج الميديا، بل من عمق الوعي الروحي، ومن تلك الأصوات التي لا تصرخ لكنها تسمع، ومن فضاءات صوفية مثل الزاوية البودشيشية، التي لا تقدم التصوف بوصفه ملاذا هروبيا، بل باعتباره مشروعا متكاملا يعيد تشكيل العلاقة بين الفرد وذاته وبين الجماعة ووطنها وبين الروح والتاريخ وبين المعيش والرمزي.

 

فالزاوية البودشيشية وهي الامتداد المغربي للطريقة القادرية، لم تنشأ ككيان معزول عن حركة المجتمع، بل جسدت ما يمكن تسميته بـالتصوف الاجتماعي، حيث تتحول التجربة الروحية إلى رافعة توازن جماعي، وإلى منبع لهوية لا تنفصم عراها رغم تقلبات الزمن، وكما يقول عالم الاجتماع بيير بورديو أن الرأسمال الرمزي هو أقوى أشكال الهيمنة حين يكون غير مرئي، فإن ما تملكه الزاوية من رصيد رمزي وروحي يجعلها فاعلا هادئا لكنه مؤثر في البناء الاجتماعي المغربي.

 

فهذه الرؤية تتجلى بشكل عميق في ممارسات الزاوية ومواقفها من قضايا تمس الذات الوطنية، ولعل أبرزها قضية الصحراء المغربية فهنا يتجاوز الموقف البودشيشي الاعتبارات السياسية الضيقة ليأخذ بعدا روحيا وهوياتيا، لأن الأرض كما يفهم في منطق التصوف ليست مجرد تراب، بل مجال لتجلي الروح والهوية، فقول سيدي حمزة القادري الذي مفاده أن حب الوطن من الإيمان ليس شعارا دينيا، بل هو تعبير عن وعي بالترابط البنيوي بين المكان والكينونة، وهي مسألة يدعمها علم النفس الاجتماعي حين يعتبر الانتماء المكاني مكونا أساسيا في بناء الأنا الجمعية.

 

ويقول إميل دوركهايم أن الدين هو التعبير الرمزي عن الجماعة نفسها، وما الزاوية إلا هذا التعبير الرمزي العميق عن طموحات مجتمع يسعى للحفاظ على توازنه الروحي في عصر اختلط فيه كل شيء، ولذلك فإن مفهوم الأمن الروحي الذي تطرحه لا يقتصر على بعد شخصي أو ديني ضيق، بل ينفتح على معنى اجتماعي وثقافي شامل، والأمن هنا لا يعني غياب الخطر فحسب، بل حضور المعنى، أوكما قال فيكتور فرانكل رائد العلاج بالمعنى أن الإنسان يمكنه أن يتحمل أي شيء إذا وجد له معنى.

 

وهذا المعنى في فلسفة الزاوية، يبنى عبر التربية والتزكية وربط الفرد بالجماعة من خلال سلوك صوفي وسطي، فالتصوف البودشيشي ليس ممارسة باطنية منفصلة عن الواقع، بل هو مشروع مناعة روحية ضد الانغلاق والتطرف، وكما قال الجيلالي بوحمالة أن العنف الديني غالبا ما ينشأ من فراغ روحي، فإن الزاوية تحاول سد هذا الفراغ عبر برامج تمتد من الذكر إلى الفكر، ومن العبادة إلى العمل الاجتماعي.

 

وإذا كانت الأزمنة الحديثة قد عمقت القطيعة بين الإنسان وأعماقه، فإن الزاوية تسعى إلى ترميم هذا الشرخ عبر إحياء الذاكرة الروحية المشتركة، لا كتكرار للماضي بل كإبداع للمعنى في الحاضر، وكما يقول عبد الكريم الخطيبي أن الهوية لا تمنح بل تخترع باستمرار، وهذا ما تفعله الزاوية عبر الحفاظ على التراث دون أن تتحول إلى متحف، وعبر الانفتاح على العصر دون أن تقع في التبعية، فمسار الدكتور منير القادري بودشيش الذي يزاوج بين العمق الصوفي والدراسات الغربية هو تجسيد لهذه الجدلية بين الأصالة والحداثة وبين الروح والعقل وبين الفقه والفكر.

 

وهنا تبرز الزاوية كفاعل دبلوماسي ناعم في محيط إقليمي وإفريقي مضطرب، بمفهوم القوة الناعمة كما طرحه جوزيف ناي، ولا يوجد تطبيقا أكثر وضوحا منه في التجربة البودشيشية، حيث يتحول التصوف إلى جسر روحي بين المغرب وعمقه الإفريقي، بل وأبعد من ذلك إلى وسيلة لإعادة تشكيل صورة الإسلام في العالم، وكما قال مالك بن نبي أن المسلمون لا ينقصهم العلم، بل تنقصهم الأخلاق التي تصنع حضارة.

 

وفي المحك العملي كما في أزمة جائحة كورونا، لم تكن الزاوية غائبة عن نبض المجتمع، بل قدمت نموذجا فريدا للتضامن الروحي الاجتماعي، حيث التقت القيم الإيمانية بالفعل الإغاثي، وذلك في صورة تجعل من الدين طاقة اجتماعية خلاقة، ويستحضر المرء هنا مقولة ابن عطاء الله السكندري أنه ليس الشأن أن تصل، بل الشأن أن تُوصل.

 

وهذه الروح الإيصالية هي ما يجعل الزاوية تتفاعل مع العالم دون أن تفقد جذورها، فكما قال محمد إقبال أن الأنا الروحية لا تتحقق إلا بالانفتاح على العالم، فإن التصوف البودشيشي يقدم اليوم بديلا للهويات المنغلقة، ويقترح مفهوما للانتماء يتجاوز الحدود القومية نحو الانتماء للمعنى وللرحمة وللآخر.

 

وفي العمق تقدم الزاوية جوابا سوسيولوجيا على سؤال فلسفي قديم مفاده كيفية أن يحيا المرئ حياة ذات مغزى في عالم يطغى عليه العبث، والجواب لا يأتي من الفلسفة وحدها ولا من الدين المجرد، بل من تجربة روحية متجذرة في السياق تنفذ إلى أعماق النفس وتستحضر طاقاتها القيمية، وكما قال محيي الدين بن عربي أن العارف لا يحده زمان ولا مكان، لأنه ابن الحضور.

 

وهكذا فإن الزاوية البودشيشية في زمن الاختناق الوجودي، لا تقدم إجابات جاهزة بل تفتح أبوابا للبحث عن الذات وعن الانسجام وعن التوازن، إنها دعوة لأن يكون الإنسان شاهدا لا على العالم فقط، بل على روحه أيضا، وفي عالم تبدو فيه الروح منسية، فإن مثل هذه الزوايا لا تعيش على الهامش، بل تشكل نبضا خفيا في قلب المجتمع، يهمس للناس أن الأمن الروحي ليس غاية نصل إليها، بل طريق نسلكه بشوق وبخشوع وبإرادة ألا نفقد إنسانيتنا.

اترك رد

Breaking News