الإثبات في الجرائم الإلكترونية.

25 يونيو 2025Last Update :
الإثبات في الجرائم الإلكترونية.

 

بقلم: عبدالرحيم موهوب

سلك الدكتوراه في القانون الخاص.

 

تقديم

 

تُعدّ الجريمة ظاهرة إنسانية لصيقة بالمجتمع البشري، تنوّعت صورها وتطورت بتطور وسائط العيش والأنشطة الإنسانية. ومع تطور المجال المعلوماتي، أصبح الإنسان أكثر ارتباطًا بالتكنولوجيا، ما مهّد الطريق لظهور نوع جديد من الجرائم: الجرائم الإلكترونية، والتي تستهدف الأفراد والكيانات من خلال المساس بالحقوق المادية والمعنوية عبر الفضاء الرقمي.

 

وقد عرّفت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) الجريمة الإلكترونية بأنها “كل فعل أو امتناع من شأنه أن يشكل اعتداءً على الأموال المادية أو المعنوية، ويكون ناتجًا مباشرة أو غير مباشرة عن التدخل في التقنية المعلوماتية”[1][2]. ويجمع الفقه الجنائي المعاصر على أن هذا النوع من الجرائم يتطلب أدوات خاصة في الإثبات، بالنظر إلى خصوصيته التقنية وغياب الدليل المادي الملموس في الغالب.

 

وعليه، فإن الإشكالية المحورية التي يطرحها هذا الموضوع تتمثل في:

 

ما هي وسائل الإثبات الجنائي المعتمدة في الجرائم الإلكترونية؟ وما مدى قبول وشرعية الدليل الرقمي أمام القضاء؟

 

وللإجابة على هذه الإشكالية، سنتناول الموضوع وفق التصميم التالي:

 

المطلب الأول: وسائل الإثبات الجنائي في الجريمة الإلكترونية

 

الفقرة الأولى: التفتيش والشهادة

 

الفقرة الثانية: الضبط والخبرة

 

 

المطلب الثاني: حدود قبول الدليل وشرعيته

 

الفقرة الأولى: دور القاضي الجنائي في البحث عن الدليل

 

الفقرة الثانية: الدليل الرقمي وأهميته في الإثبات الجنائي

يُقصد بالتفتيش الإجراء القانوني الذي يهدف إلى الدخول إلى أنظمة المعالجة الآلية للمعطيات، والاطلاع على محتواها بحثًا عن أدلة على أفعال جرمية. وقد تطور مفهوم التفتيش ليشمل المكونات اللامادية للأنظمة، كقواعد البيانات، والبرمجيات، والمعلومات المخزنة رقميًا.

 

التشريع المقارن، كما في القانون الإجرائي اليوناني (المادة 251)، أجاز لسلطات التحقيق تفتيش الأنظمة المعلوماتية وحجز البيانات الرقمية، على أن يتم ذلك بأمر من المحقق عبر خبير تقني مختص[9]. في المقابل، نصّت مسودة قانون المسطرة الجنائية المغربي (المادة 59) على إمكانية حجز البيانات الرقمية والدعامات التي تتضمنها، لكن دون حسم مسألة حجز البيانات المخزنة خارج مكان التفتيش الأصلي[10].

 

أما الشهادة، فتبقى وسيلة إثبات قائمة حتى في الجرائم الإلكترونية، غير أن نوع الشاهد يختلف، إذ يمكن أن يكون “شاهدًا معلوماتيًا”، أي شخصًا ذا خبرة تقنية أو مختصًا في أنظمة الحوسبة، أو حتى ضابط شرطة قضائية قام بتحليل جهاز معين أو إعادة تركيب مخرجاته[11][12][13].

 

الضبط الجنائي يشترط أن يرد على أشياء مادية مفيدة في كشف الحقيقة. أما في الجرائم الرقمية، فإن الضبط ينصب على الأجهزة الحاملة للمعلومة (حواسيب، أقراص صلبة، هواتف…)[14].

 

أما الخبرة، فتلعب دورًا محوريًا، نظرًا للطابع التقني للدليل الرقمي. وقد أقرّ المشرع المغربي إمكانية لجوء القاضي والنيابة العامة إلى الخبرة التقنية بمقتضى المادتين 194 و47 من قانون المسطرة الجنائية، كلما تعلق الأمر بمسألة فنية تعيق الوصول إلى الحقيقة القضائية[16][17].

القاضي الجنائي ليس مجرّد متلقٍ للأدلة، بل يملك سلطة قانونية واسعة للبحث عن الحقيقة واستكمال النقص في التحقيقات. في الجرائم الإلكترونية، تتأكد هذه السلطة بضرورة الاستعانة بخبراء تقنيين نظرًا لحساسية الدليل الرقمي وإمكانية التلاعب به[21].

 

وينسجم هذا مع المادة 81 من قانون المسطرة الجنائية الفرنسي، التي تتيح لقاضي التحقيق استخدام كل الوسائل المشروعة للوصول إلى الحقيقة[22][23]. كما تبنّى المشرع المغربي مبدأ حرية الإثبات، لكنه فرض على القاضي واجب التحقق من مصداقية الأدلة، خصوصًا إذا كانت رقمية، لأن مجرد تقديمها لا يكفي للإدانة دون فحص تقني يضمن سلامتها.

 

وفي حال استمرت الشكوك حول صلاحية الدليل الرقمي، فإن القاضي مطالب بترجيح الشك لفائدة المتهم، انطلاقًا من القاعدة الجنائية “الشك يفسر لصالح المتهم”[25].

 

 

 

الدليل الرقمي هو الحجة المستخرجة من معطيات إلكترونية، ويُعدّ الوسيلة الأساسية لإثبات الجرائم المعلوماتية، سواء تعلق الأمر بإثبات الجريمة أو نفيها[26][27][28].

 

وفي المغرب، تُعدّ جريمة “الدخول الاحتيالي إلى نظام للمعالجة” النموذج الأبرز، وقد خصّها المشرع بالقانون 07.03 ضمن مجموعة القانون الجنائي. كما أنشأت المديرية العامة للأمن الوطني مختبرًا جهويًا لتحليل الآثار الرقمية بمدينة مراكش سنة 2012، يُعنى بجمع الأدلة وتحليلها تقنيًا وتقديم الدعم الفني

 

إن الجرائم الإلكترونية ليست مجرد امتداد لصور الإجرام الكلاسيكي، بل هي انقطاع عنه من حيث الوسيلة والمجال، وهو ما يستلزم إعادة التفكير في قواعد الإثبات الجنائي وفق منطق يتلاءم مع البيئة الرقمية.

 

فكما يقول بيكاريا: «الغاية من القانون ليست أن يُعاقب فحسب، بل أن يُقنع أيضًا»، وهي غاية لا تتحقق دون دليل رقمي سليم ومشروع. ولا يكفي أن نُثبت الجريمة بالدليل، بل كما أشار جيريمي بنتام: «يجب أن نثبت الدليل نفسه». إذ أن الدليل الرقمي – رغم قوته الظاهرة – قد يكون عرضة للتزييف أو التحريف، ويحتاج إلى تحقيق تقني دقيق.

 

لذلك يجب أن ينحو التشريع المغربي نحو إصلاحات عميقة تشمل:

 

ضبط إجراءات تفتيش وحجز البيانات الرقمية وضمان شرعيتها؛

 

إلزامية عرض الدليل الرقمي على الخبرة التقنية لضمان مصداقيته؛

 

تطوير التكوين القضائي في المجال المعلوماتي؛

 

وتوسيع نطاق التحسيس والتوعية في المجتمع، بدءًا من المؤسسات التعليمية.

 

 

وكما قال جان كاربانتيي: «القانون لا يحقق عدالته بالكلمات فقط، وإنما باليقظة المستمرة أمام تطورات الواقع»، فإنه لا مستقبل لعدالة جنائية تعتمد أدوات إثبات تجاوزها الواقع التقني، ولا كرامة لمحاكمة تُبنى على شكوك.

 

 

 

لائحة المراجع

 

[1] – مصطفى الزحيلي، وسائل الإثبات، ط. دار البيان، دمشق، 1982.

[2] – الموسوعة الفقهية الكويتية، ج 1، ص 232.

[6] – السنهوري، الوسيط، م 1، ص 319.

[7] – المرجع نفسه، ص 320.

[8] – أحمد يوسف الطحاوي، الأدلة الإلكترونية ودورها في الإثبات الجنائي، ص 137.

[9] – هلالي عبد الله أحمد، تفتيش نظم الحاسوب وضمانات المتهم، دار النهضة العربية، 2000، ص 52.

[10] – المادة 59 من مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية المغربي.

[11] – مليكة أبو ديار، الإثبات الجنائي في الجرائم الإلكترونية، المجلة الإلكترونية للأبحاث القانونية، 2018، عدد 2، ص 106.

[12] – المرجع نفسه.

[13] – الطحاوي، م.س، ص 140.

[14] – عبد الله حسين علي محمود، سرقة المعلومات المخزنة في الحاسب الآلي، ط 2، دار النهضة العربية، 2015، ص 397.

[15] – مأمون محمد سلامة، الإجراءات الجنائية، كلية الحقوق بجامعة ليبيا بنغازي.

[16] – المادة 194 من قانون المسطرة الجنائية المغربي.

[17] – عمر الموريف، البحث والتحقيق في الجرائم المعلوماتية، ص 39.

[18] – أحمد ضياء الدين، مشروعية الدليل الإلكتروني، كلية الحقوق جامعة عين شمس، 1984، ص 359.

[19] – محمود مصطفى، الإثبات في المواد الجنائية، ج 1، جامعة القاهرة، 1978، ص 3.

[20] – عبد الواحد العلمي، شرح قانون المسطرة الجنائية، ج 2، مطبعة النجاح، 2000، ص 280.

[21] – المادة 194 من ق.م.ج المغربي.

[22] – المادة 81 من ق.م.ج الفرنسي.

[23] – Mustapha Mekki, Vérité et preuve, Université Paris 13, Sorbonne.

[24] – Emmanuel Molina, La liberté de la preuve en droit français, Thèse, Aix-Marseille, 2000.

[25] – الطحاوي، م.س، ص 232، 234، 246.

[26] – سيدي محمد ليشير، دور الدليل الرقمي في إثبات الجرائم المعلوماتية، رسالة ماجستير، جامعة نايف، 2010، ص 21.

[27] – علي محمود، الأدلة الإلكترونية، المؤتمر القانوني الأول، الإمارات، 2003، ص 18.

[28] – عابد العمراني وامحمد أقبلي، القانون الجنائي الخاص المعمق، ط 1، 2020، ص 304.

[29] – الجريمة المعلوماتية في المغرب، مقال منشور على موقع ساسة بوست.

اترك رد

Breaking News