الملكية والريف في عهد الملك محمد السادس…من الذاكرة الجريحة إلى الأفق الرمزي للوحدة والإنصاف

27 يوليو 2025Last Update :
الملكية والريف في عهد الملك محمد السادس…من الذاكرة الجريحة إلى الأفق الرمزي للوحدة والإنصاف

.

بقلم ذ : عماد شحتان.

من الصعب أن تكتب عن علاقة الريف
بالمؤسسة الملكية في عهد محمد السادس دون أن تستحضر تعقيدات التاريخ وجراحه، وذاكرة الجماعة وخيباتها، وأيضاً ما تحقق من مصالحة وتوافق ضمني بين المجال والدولة وبين الهامش والمركز وبين الريف والعرش، وإذا كانت العلاقات بين السلطة المركزية وسكان الريف قد مرت بفترات من التوتر والقلق، فإن عهد الملك محمد السادس مثّل برغم ما شابه من صعوبات لحظة انتقال نحو منطق جديد في إدارة العلاقة مع هذه المنطقة التي تحتل مكانة رمزية وتاريخية بالغة الحساسية في التكوين السياسي والاجتماعي للمغرب الحديث.

ففي خطاب الدولة وفي الوعي الجمعي، لم يعد الريف يُقدم باعتباره منطقة مشاغبة أو فضاء احتجاجي مزمن، بل صار يتجلى أكثر فأكثر كمجال ينبغي إدماجه تنمويا وإنصافه تاريخيا والاعتراف بفرادته ضمن وحدة الوطن، فقد انقضى زمن المقاربة الأمنية التي حكمت العلاقة بين المخزن والريف لعقود أو على الأقل تراجعت حدتها، ليحل محله منطق المصالحة التاريخية التي دشنتها هيئة الإنصاف والمصالحة والتي اعترفت بوضوح بما تعرضت له هذه المنطقة من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، سواء خلال أحداث 1958-1959 أو في تواريخ أخرى مسكوت عنها كانت تلك لحظة مفصلية في تحول خطاب الدولة، وفي إعادة ترميم الذاكرة الريفية الجريحة وهو ما استقبله الريفيون بمزيج من الأمل والحذر، غير أن الأثر الرمزي للمصالحة ظل قائماً حتى لو تخلفت أحيانا السياسات العمومية عن مواكبته.

لقد جاء الملك محمد السادس إلى الحكم وهو يعي تماماً ما تمثله منطقة الريف في المخيال السياسي المغربي، ليس فقط من حيث ماضيها الثوري ولكن أيضاً من حيث طموحاتها وإحساس أبنائها العميق بالتميّز والكرامة، فاختار خطاب التهدئة لا التصعيد وخطوة القرب بدل منطق القطيعة، وقد تجلى هذا التوجه في زياراته المتكررة للمنطقة وفي إطلاق مشاريع كبرى من قبيل الحسيمة منارة المتوسط وفي إرساء تصور جديد للتنمية لا ينحصر فقط في البنيات التحتية بل يمتد ليشمل التعليم والصحة ومحاربة الهشاشة، وهي مشاريع قد يُقال فيها الكثير وقد تعرّضت لانتقادات عديدة بسبب التعثر أو ضعف الفعالية، إلا أن رمزيتها السياسية والاجتماعية لا يمكن إنكارها لأنها أعلنت بوضوح نهاية مرحلة عقابية وافتتاح عهد جديد يقوم على الاعتراف بالريف كمكون أصيل من الوطن لا كملف أمني يُدار خلف الكواليس.

والريف من جهته لم يكن في يوم من الأيام عدواً للملكية، بل كان دوماً يميز بذكاء شعبي عميق بين الدولة كمؤسسة تُخطئ وتصيب وبين العرش كرمزية موحِّدة، وحتى في لحظات الغضب الشعبي كما وقع في احتجاجات 2017 ظل الحراك المدني في الحسيمة وسائر مناطق الريف حريصاً على التأكيد المتكرر على تشبثه بالملكية، وولائه لشخص الملك وهو أمر لم يكن نفاقا سياسياً بل تعبيراً عن قناعة اجتماعية تشكلت عبر الزمن، ونسجها الخيال الجمعي الريفي بدقة فائقة، فالحراك وإن كان صرخة ضد الظلم والتهميش لم يكن خروجاً على الدولة، بل كان في العمق طلبا للحماية من المؤسسة الملكية ذاتها، باعتبارها الضامن الوحيد لتحقيق العدالة الاجتماعية، وضبط إيقاع النخب المحلية والمؤسسات الوسيطة التي كثيراً ما فشلت في التعبير عن هموم الناس.

حين يشعر الفرد بأن هناك من يستمع إليه ولو رمزياً، فإنهم يثبتون ولاءهم لمنحى التواصل لا للغة القطيعة، وهذا ما حصل في الريف حيث ظل المواطنون برغم الأزمات يحتكمون إلى المرجعية العليا للملك ويطالبونه بالتدخل، ويحمّلون مسؤولية الإخفاق لبيروقراطية الدولة لا لرأسها. وقد لعبت هذه الثنائية الذكية دوراً كبيراً في صيانة التماسك الوطني، وفي تفادي انزلاقات كان يمكن أن تكون كارثية لولا استمرار حضور الملكية كضامن رمزي للحمة الوطنية.

فما بين الريف والملكية إذا ليست هناك علاقة طاعة عمياء ولا علاقة تمرّد عنيف، بل هناك علاقة مركبة من الولاء النقدي والارتباط الرمزي والتوق إلى العدالة، فالمؤسسة الملكية في وعي الريفيين لا تزال تُشكل الأفق الممكن للتغيير والتوازن والإنصاف، وهي مؤسسة ينظر إليها أهل الريف بكثير من الاحترام، ولكنهم في الآن ذاته لا يترددون في مطالبتها بتصحيح اختلالات التدبير الترابي، ومحاسبة من يسيء إلى السياسات التنموية باسمها أو باسم المخزن.

إن علاقة الريف بالملك محمد السادس ليست علاقة ولاء مجرد ولا هي استمرارية لعداء تاريخي، بل هي ثمرة تطور عميق في فهم السلطة والهوية والدولة، وهي علاقة حوار غير مباشر، حوار أحياناً صامت لكنه مستمر ويتضمن رسائل من الطرفين في انتظار أن تتبلور إرادة سياسية أقوى لتجسير الهوة التنموية وتوسيع دائرة المشاركة، وتعميق مفهوم الإنصاف الترابي الذي لم يتحقق بعد بشكله الكامل.
ويمكن القول إن الملكية في المغرب وجدت في الريف شعبا صلبا متمردا لكنه في العمق شديد الوفاء، وإن الريف وجد في الملكية برغم كل شيء، أفقاً للوحدة ومجالاً للأمل ومحوراً رمزياً لتعويض ما خسرته الذاكرة من دموع وموت وصمت.

اترك رد

Breaking News