تنازل منير القادري عن مشيخة الزاوية البودشيشية … بين رمزية الانسحاب وتحديات الشرعية

12 أغسطس 2025Last Update :
تنازل منير القادري عن مشيخة الزاوية البودشيشية … بين رمزية الانسحاب وتحديات الشرعية

.

بقلم: الدكتور عبدالرحيم موهوب.

إن قرار الشيخ منير القادري البودشيشي بالتنازل عن مشيخة الزاوية لصالح شقيقه معاذ كما ورد في بيانه المؤرخ في 12 أغسطس 2025، لم يكن مجرد فعل إداري أو حركة أخلاقية، بل حدث رمزي كثيف المعاني في سياق بيت روحي عريق تحيط به هالة من القداسة، وفي الوقت نفسه يواجه تحديات السلطة والشرعية، فلغة البيان التي امتلأت باستعارات الصفاء ووحدة الصف وستر البيت جاءت أقرب إلى خطاب المصالحة الكبرى منها إلى خطاب الاستقالة، إذ حاولت إعادة تشكيل المعنى الجمعي للمريدين على قاعدة أن القيادة تكليف لا تشريف وأن البقاء لله وحده، وهذا الخطاب يتناغم مع ما قاله ماكس فيبر عن أن الشرعية ليست فقط في النصوص أو الألقاب بل في الاعتراف الطوعي للجماعة بمن يقودها، لأن الزعامة الروحية تفقد معناها إذا تحولت إلى مجرد موقع إداري.

لكن قراءة أعمق للمشهد تكشف أن هذا التنازل لم يولد في فراغ، بل جاء محاطا بسياق ممتد من التوترات العائلية والرمزية، والتي بدأت قبل وفاة الشيخ جمال القادري بأسابيع حين تسارعت التسريبات على المنصات الرقمية وتشابكت الروايات حول وصية روحية تعود للشيخ حمزة توصي بالمشيخة لحفيده منير، ومقاطع الفيديو التي وثّقت الجنازة وطقوس البيعة كشفت مشهدًا متناقضًا، فالشيخ منير يمد يده طلبًا للمصافحة كرمز للقبول والشيخ معاذ منشغل بتنظيم استقبال المريدين والشيخ فؤاد الأخ الثالث يرفض أداء البيعة، وهنا يتجسد ما وصفه بيير بورديو بـالصراع على رأس المال الرمزي حيث تتحول الطقوس والإيماءات إلى أدوات تثبيت أو نزع الشرعية، وحيث يصبح الجسد نفسه في لحظة المصافحة أو رفضها حاملًا لمعاني سياسية واجتماعية.

كما أن غياب كبار الشخصيات السياسية والمستشارين عن الجنازة واقتصار الحضور الرسمي على عامل الإقليم أعطى بعدًا إضافيًا لهذه اللحظة، وفي لغة الرموز فإن الغياب أحيانًا أبلغ من الحضور، وهو ما دفع مراقبين إلى قراءة هذا المشهد كإشارة تحفظ من الجهات العليا تجاه طريقة إدارة الزاوية في السنوات الأخيرة، وحتى برقية التعزية الملكية حملت دلالة مغايرة إذ وجهت إلى الأسرة كافة وسلمت للأرملة، وذلك على خلاف ما وقع عام 2017 حين وُجهت مباشرة إلى الخلف المعيّن، وهذا التغيير ينسجم مع ما أشار إليه دوركهايم حول أن الطقس لا يعبر فقط عن العاطفة بل عن البنية الاجتماعية التي تحدده، وأن أي تغيير في تفاصيله يعكس تغيرًا في العلاقات وموازين القوى.

إن الزاوية البودشيشية ليست مجرد فضاء للتعبد بل مؤسسة ذات امتداد اجتماعي وسياسي، ذلك أنها تدير شبكة علاقات معقدة بين المريدين والدولة والجماعات الصوفية الأخرى، فالشرعية فيها لا تُبنى فقط على النسب أو النص بل على قدرة الشيخ على ضمان الاستقرار الداخلي والحفاظ على الروابط مع السلطة السياسية، وهي القدرة التي بدت مهددة مع بروز أصوات ناقدة لطموحات و توجهات جديدة في الإدارة. وكما قال نيتشه فإن من يملك سببًا للحياة يستطيع أن يتحمل كل الكيفيات، وهكذا فإن بقاء هذا السبب أي المعنى الروحي الموحد هو ما يحدد ما إذا كانت الخلافة ستنجح أو تتحول إلى انقسام.

كما أن البيان الذي أعلن فيه منير تنازله بدا محاولة لإعادة إنتاج صورة الشيخ الضامن لا الشيخ الحاكم، أي الانتقال من مركز القرار إلى موقع الحارس للمعنى، وذلك في انسجام مع مقولة فيبر عن أن القائد الكاريزمي قد يعزز سلطته أحيانًا بالانسحاب الطوعي، لأنه يثبت بذلك أن سلطته ليست غاية في ذاتها، غير أن هذا الانسحاب لا يلغي الأسئلة العالقة حول الوصية وشرعيتها ومنظومة إدارة الزاوية في المستقبل، فالجماعة التي انقسمت حول الوثيقة قد لا تتوحد بمجرد بيان ما لم يُدعم ذلك بإجراءات ملموسة تُعيد الثقة وتُغلق مساحات التأويل.

وفي خلفية المشهد تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا مزدوجا، فهي مرآة تكشف الانقسام ومنصة تعيد صياغة الروايات، وهنا يتحقق ما لاحظه بورديو عن أن الفضاء العمومي الحديث لا يكتفي بنقل الحدث بل يشارك في إنتاجه عبر الصور والتعليقات والهاشتاغات، وكل هذا تحول إلى أدوات سلطة موازية للخطاب الرسمي للزاوية، وقدرة القيادة الجديدة على احتواء هذا الفضاء ستكون جزءًا من اختبار شرعيتها، فالمريد اليوم ليس فقط حاضرًا في الزاوية بل هو أيضا فاعل في فضاء رقمي مفتوح، فهو يراقب ويحلل ويشارك في صناعة الإجماع أو الانقسام.

وهكذا يصبح بيان التنازل عن المشيخة أكثر من مجرد وثيقة إنهاء مهام بل نصا مفتوحا للتأويل ومسرحا تتقاطع فيه السلطة الرمزية والرغبة في الوحدة وإكراهات الواقع السياسي والاجتماعي، ولهذا فإن مصيره سيتحدد بقدرة الفاعلين داخل البيت الروحي وخارجه على تحويل هذه اللحظة من مجرد هدنة ظرفية إلى إعادة تأسيس لعقد جماعي جديد، بغرض أن يحفظ للزاوية مكانتها كفضاء روحي مؤثر، ويجنبها أن تتحول إلى ساحة أخرى لصراعات الهيمنة، وكما قال باسكال فإن العظمة الحقيقية تكمن في القدرة على الانسحاب حين يهدد الحضور جوهر المعنى، فهذا الانسحاب قد يكون اللحظة التي تحدد إن كان البيت البودشيشي سينجو موحدًا أو سيتصدع تحت وطأة تناقضاته الداخلية.

اترك رد

Breaking News