شرخ سرّي في الزاوية البوتشيشية القادرية: أزمة روحية أم انقسام غير معلن؟

13 أغسطس 2025Last Update :
شرخ سرّي في الزاوية البوتشيشية القادرية: أزمة روحية أم انقسام غير معلن؟

بقلم برحايل عبد العزيز.

تُعد الزاوية القادرية البوتشيشية إحدى أبرز المدارس الصوفية في المغرب والعالم الإسلامي، وهي تحمل إرثًا روحيًا عميقًا متصلًا بالسلسلة القادرية التي أسسها الشيخ عبد القادر الجيلاني في القرن السادس الهجري. هذه الزاوية اشتهرت عبر تاريخها بتمسكها بالوسطية ونبذ التطرف، وبسعيها إلى تربية النفوس على قيم التزكية والتواضع وخدمة الدين والوطن، كما عُرفت بكونها فضاءً رحبًا استقطب علماء كبارًا وشخصيات فكرية بارزة، بل وحتى بعض النخب السياسية والأكاديمية التي كانت تبحث عن صفاء روحي بعيد عن تجاذبات السلطة. ومنذ نشأتها، ظلت الزاوية البوتشيشية حريصة على عدم الزج بها في المعترك السياسي، وهو ما جعلها تحظى باحترام واسع من مختلف مكونات المجتمع المغربي.

غير أن هذا التوازن الدقيق الذي حافظت عليه لعقود بدأ يواجه اختبارًا غير مسبوق، حين أعلن الشيخ جمال الدين القادري البوتشيشي في وصية علنية انتقال “السر الروحي” وقيادة الزاوية إلى ابنه منير، في طقس رمزي حضره المريدون وأبناء البيت الروحي. كان الإعلان بمثابة تثبيت للسند الشرعي وضمان لاستمرارية الخلافة الصوفية، لكن لحظة قراءة الوصية حملت إشارات غير مريحة، حيث بدت على وجه بعض أفراد العائلة، ومن بينهم الشيخ معاذ، علامات انزعاج أو تحفظ، وهو ما أثار التساؤلات حول مدى الإجماع العائلي على هذا الاختيار.

لم تمض فترة طويلة على هذا الحدث حتى تناقلت وسائل الإعلام خبرًا صادمًا: الشيخ منير البوتشيشي يعلن تنازله عن المشيخة، مفسحًا المجال لشقيقه معاذ لتولي القيادة. هذا التنازل المفاجئ فتح الباب أمام سلسلة من الأسئلة المعقدة: هل تم التنازل طواعية أم تحت ضغوط داخلية؟ وهل انتقل “السر” فعلًا قبل هذا القرار؟ وما مصير السلسلة الروحية التي تشكل جوهر شرعية الزاوية؟ في التقاليد الصوفية، لا يُسلَّم السر إلا إلى خليفة مُعَدّ روحيًا ووفق طقوس محددة، وأي خلل في هذه العملية قد يُنظر إليه باعتباره تهديدًا لاستمرارية السند.

اليوم، تقف الزاوية أمام مفترق طرق حاسم. فمن جهة، هناك حرص على الحفاظ على وحدة الصف ودرء الانقسام، ومن جهة أخرى، هناك تساؤلات مشروعة لدى المريدين حول طبيعة هذا الانتقال المفاجئ وأثره على مصداقية القيادة. بعض المراقبين يرون أن المشهد قد يفضي إلى انقسام غير معلن داخل البيت البوتشيشي، حيث تتوزع الولاءات بين خط روحي تقليدي يتمسك بالشرعية المستمدة من السند والوصية، وخط آخر ربما يميل إلى مقاربة أكثر براغماتية تركز على الدور الاجتماعي والسياسي للزاوية.

الخطر الأكبر الذي يحذر منه المتابعون هو أن تتحول الزاوية، إذا لم تُحسم هذه الأزمة بروح الحكمة والتوافق، إلى مؤسسة شكلية تؤدي وظائف اجتماعية دون أن تحافظ على عمقها الروحي الذي منحها مكانتها وهيبتها لقرون. فالتصوف البوتشيشي لم يكن يومًا مجرد شعائر أو طقوس، بل كان مدرسة متكاملة للتزكية والسمو الأخلاقي، وفقدان هذا الجوهر يعني فقدان المعنى الذي من أجله وُجدت الزاوية.

إن الشرخ السرّي الذي بدأ يتشكل اليوم قد يبقى قابلاً للاحتواء إذا ما تحركت القيادات الروحية والعائلية بحكمة، لكن إذا تُرك دون معالجة، فقد يتطور إلى انقسام يضعف الزاوية من الداخل، ويهدد موقعها في المشهد الصوفي المغربي. والتاريخ يُعلّمنا أن الزوايا التي فقدت سرها الروحي أو أضاعته تحت ضغط الصراعات الداخلية، لم تستطع استعادة مكانتها بسهولة، بل تحولت إلى مجرد ذكرى في كتب التراث.

اترك رد

Breaking News