الدكتور: عبدالرحيم موهوب.
نعيش في المغرب زمنا أصبح فيه المعنى نفسه سائلا يتبدّد كما يتبخّر الماء في صحراء متّقدة بالشاشات والرموز والإعلانات، فلم يعد الإنسان المغربي يعيش بين صلابة القيم القديمة ولا بين يقين الحداثة المؤسسية، بل في برزخ غريب تتجاور فيه العادات الراسخة مع الرغبات الرقمية والإيمان الصامت مع الشك الضاحك، والانتماء الترابي مع هوس الهجرة والعبور، وكأن الحياة نفسها صارت مؤقتة، وكما يقول باومان فإنه في العالم السائل لا شيء يُراد له أن يدوم حتى الدوام ذاته أصبح مصدر قلق.
فقد كانت الحداثة الصلبة تبني الإنسان حول فكرة الدوام، من وظيفة تمتد مدى الحياة وزواج يقاوم الزمن والتزام سياسي أو ديني يحدد معنى الوجود، وأما اليوم فقد تفكّكت تلك الروابط الواصلة بين الفرد والجماعة وصار الإنسان المغربي يعيد اختراع نفسه كل يوم، حيث يتغير بقدر ما تتغير واجهة هاتفه، فصار يعيش ما وصفه أنطوني غيدنز بـالهوية الانعكاسية، حيث لا يُمنح المعنى من الخارج بل يُصنع داخليا في حركة دائمة من الشك وإعادة التشكيل، ولم يعد الانتماء قدرا بل خيارا مؤقتا بين عدة احتمالات متناقضة.
ففي الأسواق والشوارع والمقاهي وفي الترامواي وفي رقميات وسائل التواصل يمكن تلمس هذا التبدّد الرمزي، فالعلاقات الإنسانية التي كانت تقوم على الوصل والتكافل، فباتت علاقات نقر ولمس عابرة وسريعة الزوال، حيث يقول جان بودريار بأننا نعيش في زمن تسبق فيه الصورة الواقع وتلغيه أحيانا، ولعل هذا ما يصف بدقة المشهد المغربي الراهن، حيث أصبح الحب مشفرا بالرموز التعبيرية والصداقة محسوبة بعدد المتابعين، والانتماء مرهونا بنجاح الصورة في جذب الانتباه.
وفي ظلّ هذا التحول فقد الشغل معناه الاستقراري، إذ تحول من مصدر هوية إلى وسيلة للبقاء، وصار الشاب المغربي يعيش تحت وطأة المرونة التي تُسوقها النيوليبرالية كحرية، لكنها في الواقع نزع للثبات وتهشيم للشعور بالأمان، فلم يعد العمل طريقا للكرامة، بل سباقا دائما نحو مؤقت جديد، وهذا ما عبّر عنه بيير بورديو حين تحدث عن اللايقين الاجتماعي، ذلك الشعور العميق بالهشاشة الذي ينتج عن غياب التوقعات المستقرة، فإننا أمام جيل يعيش داخل عالم لا يعد بشيء ويطالب فيه الأفراد بصنع مصيرهم من فراغ.
وأما الهوية فقد صارت معركة رمزية أكثر منها معطى واقعيا، فالمغربي اليوم يتحرك بين انتماءات متقاطعة دينية وثقافية وكونية ومحلية وافتراضية، ويبحث عن ذاته في مرآة متعددة الوجوه، ويلبس لغات عدة كما يبدل نغمات هاتفه، فلم تعد الهوية جوابا بل سؤالا مفتوحا، وكأن كل فرد صار مشروع سردية صغيرة يحاول أن يروي نفسه وسط صخب من السرديات الكبرى التي فقدت بريقها، وربما صدق ميشيل فوكو حين قال بأنه اختفى الإنسان كما تختفي الكتابة على الرمل حين يلامسها الموج.
والسياسة بدورها لم تعد مساحة صلبة تُعبر فيها الجماعة عن إرادتها، بل صارت هي الأخرى مائعة، فالمواطن يستهلك الخطاب السياسي كما يستهلك الأخبار العابرة بانتباهٍ مؤقت ولامبالاة دائمة، وتتبدل الوجوه والشعارات لكن الإحساس الجماعي بالانخراط تلاشى، فالثقة وهي تلك الركيزة الصلبة لأي عقد اجتماعي أصبحت سلعة نادرة، فالكل يراقب من بعيد ويعلّق ويسخر ثم ينسحب، فـاللامشاركة أصبحت شكلا جديدا من أشكال المشاركة الرمزية، كما لو أن الصمت نفسه صار لغة سياسية في زمن فقد الكلام قدرته على الإقناع.
وفي هذا المشهد المائع يبدو المغرب وكأنه يعيش داخل مفارقة مزدوجة:د، حيث مجتمع لا يريد أن يقطع مع ماضيه لكنه لا يملك القوة الكافية ليصير حداثيا بالكامل، فهو يعيش حداثة غير مكتملة أشبه بما وصفه إدغار موران بـالتحول المعلّق، حيث القديم لا يموت والجديد لا يولد تماما، وهناك في العمق توق إلى المعنى وإلى الثبات وإلى شيء يمكن الاتكاء عليه وسط هذا الفيضان الرمزي، ولكن في الوقت نفسه هناك رغبة في الحرية وفي التجريب وفي التحلل من كل قيد.
إن هذا النوع من الحداثة في المغرب ليست مجرد ظاهرة اجتماعية بل حالة وجودية يعيشها الفرد في كل تفاصيل حياته، حيث يعيش المغربي اليوم بين الماضي الذي يحنّ إليه والمستقبل الذي يخافه والحاضر الذي لا يملك وقتا لتأمله، ولعل المأساة كما كتب والتر بنيامين هي أن التقدم يشبه عاصفة تدفع بالمستقبل أمامها بينما تنثر الحطام خلفها، فهل نحن نتحرك نحو الأفق أم أننا فقط نطفو على سطحه؟.
فلا خلاص من كل هذا إلا عبر إعادة بناء المعنى لا بالعودة إلى الوراء ولا بالارتماء في أحضان العدم، بل بالبحث عن توازن جديد بين ما يبقى وما يتبدّل، فالمجتمعات لا تنهض بالصلابة وحدها ولا بالسيولة وحدها بل بقدرتها على تحويل القلق إلى إبداع واللايقين إلى مشروع، وفي هذا يكمن التحدي المغربي الأكبر، وهو أن يحوّل هشاشته إلى طاقة حياة وأن يجد في هذه الحداثة طريقا نحو صلابة جديدة وهي صلابةٍ لا تُقيد بل تمنح للحرية جذورا كي لا تذوب في الهواء.