لم تعد الجرائم الإلكترونية مجرد عمليات سرية ينفذها أفراد موهوبون في الظلام، بل تحولت إلى صناعة مزدهرة تدار بأسلوب الشركات الكبرى. مع ازدهار ما يُعرف بـ”اقتصاد الجرائم الإلكترونية”، أصبح بإمكان أي شخص تقريبًا أن يصبح محتالًا محترفًا دون الحاجة إلى مهارات تقنية متقدمة، بفضل انتشار الأدوات والخدمات الإجرامية الجاهزة للبيع في أسواق رقمية سرية.
من القراصنة الموهوبين إلى شبكات إجرامية منظمة
في الماضي، كان تنفيذ الجرائم الإلكترونية يتطلب معرفة تقنية عميقة، لكن اليوم، أصبح الوصول إلى البيانات الشخصية وإطلاق هجمات تصيد احتيالي أسهل من أي وقت مضى. نيكولاس كورت، المدير المساعد لمركز الإنتربول للجرائم المالية، يؤكد أن المجرمين لم يعودوا أفرادًا منعزلين، بل باتوا جزءًا من شبكات احترافية تدير عملياتها مثل المؤسسات التجارية، حيث تُباع خدمات القرصنة بأسعار محددة، ويجري تقديم دعم فني للمحتالين الجدد!
سوق سوداء رقمية: عندما تصبح الجرائم خدمة مدفوعة!
انتشار مفهوم “الجرائم الإلكترونية كخدمة” (CaaS) أدى إلى إنشاء منصات متخصصة توفر أدوات قرصنة متطورة، تشمل برامج الفدية، شبكات الروبوتات، والبيانات المسروقة، مقابل رسوم تُدفع غالبًا بالعملات المشفرة لضمان السرية. أسواق مثل Abacus Market وTorzon Market وStyx أصبحت الوجهة المفضلة للمحتالين الباحثين عن الأدوات اللازمة لشن هجماتهم.
وبحسب تقرير Chainalysis، فإن بعض هذه الأسواق تجاوزت أرقامًا غير مسبوقة، مثل Huione Guarantee، المنصة المرتبطة بعصابة Huione Group الكمبودية، والتي بلغت قيمة معاملاتها المشفرة 70 مليار دولار منذ عام 2021. هذه المنصة ليست مجرد سوق للبرامج الضارة، بل تُستخدم أيضًا للإعلان عن خدمات غير مشروعة، مثل غسيل الأموال والاحتيال الاستثماري وبيع الهويات المزيفة، حيث يتم الترويج لهذه العمليات عبر مجموعات مغلقة على تيليغرام تديرها عصابات متخصصة.
ذكاء اصطناعي في خدمة الاحتيال: عصر الاحتيال المتطور!
لم يتوقف تطور الجرائم الإلكترونية عند بيع الأدوات، بل دخل الذكاء الاصطناعي على الخط، مما جعل عمليات الاحتيال أكثر تعقيدًا وأقل تكلفة. التقنيات مثل التزييف العميق (Deepfake) واستنساخ الصوت أصبحت أدوات رئيسية في ترسانة المحتالين.
في حادثة صادمة، تعرضت شركة في هونغ كونغ للاحتيال بقيمة 25 مليون دولار، بعد أن استخدم المحتالون تقنية التزييف العميق لانتحال شخصية المدير المالي خلال مكالمة فيديو، مما خدع الموظفين وجعلهم يحولون المبلغ دون أي شكوك.
هل يمكن إيقاف هذه الموجة؟
رغم الجهود الدولية لإغلاق هذه الأسواق، فإنها غالبًا ما تعود للعمل تحت أسماء جديدة، مما يجعل القضاء عليها تحديًا معقدًا. وكما يقول نيكولاس كورت من الإنتربول: “الجرائم الإلكترونية ليست مجرد نشاط إجرامي عابر، بل منظومة متكاملة لا يمكن القضاء عليها بالاعتقالات فقط، بل بالوقاية والتوعية وتعزيز الأمن السيبراني.”
ولهذا، تتجه الشركات نحو الاستثمار في أنظمة دفاع متطورة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، مثل مراقبة الويب المظلم، التي تساعد في تتبع البيانات المسربة، والتصدي للهجمات قبل وقوعها. في عالم تتحول فيه الجرائم الإلكترونية إلى صناعة مزدهرة، يبدو أن الأمن السيبراني لم يعد خيارًا، بل ضرورة للبقاء!
تحرير:سلمى القندوسي